تتحدث أدبيات الإعلام عن الحياد الإعلامي كإحدى أهم ركائز المصداقية في الإعلام. وتتفنن وسائل الإعلام في «الترويج» لهذا الحياد عبر وسائل شتى، تبرر أو تدافع فيها عن حيادها وموضوعيتها. وقد واجهت الصحافة الخليجية هذه المشكلة عندما «تغَوّل» الإعلان أحياناً على حيادية بعض الصحف، وأصبح توقيف مقال لكاتب وطني انتقد مؤسسة -تُعلن في الصحيفة- أسهل من شربة ماء! ذلك أن الكاتب-في عُرف الصحيفة- يمكن استبداله، ولكن الإعلان إن ذهبَ إلى مكان آخر فلن يعود. ولذا كان العرف أن وزن ومكانة المدير العام في الجريدة أثقل وأكبر من وزن ومكانة رئيس التحرير، ذلك أن رئيس التحرير يصرف المال والمدير العام يوفر المال! وهذا ما قد «يوتّر» العلاقة بين الرجلين في العديد من المؤسسات الصحفية. كما يتعلق الموضوع بقضية المقاربة السياسية وقوة بعض «المُتنفذين» في أي مجتمع، ومدى قدرتهم على التحكم في اتجاهات «حياد» الجريدة عبر سلطتهم السياسية، التي يمكن أن «تطمر» حقائق، و«تُظهر» دعاوى! وأذكر أن كاتبة انتقدت مؤسسة توفر دخلاً إعلانياً لجريدة بمقدار 5 ملايين في العام، فتم إيقاف الكاتبة، بينما استمر تدفق الإعلان. ونفس الشيء يحصل اليوم في الفضائيات! فأغلب الفواصل تتحدث عن الحياد والموضوعية، ولكن الممارسة المهنية تختلف جداً! خصوصاً في القضايا السياسية أو الدينية! حيث تتبع الفضائية سياسة واتجاهات مموليها أو مالكيها. وما يعنيه عدم الحياد كثير ويمكن ضرب أمثلة عليه: - خفض صوت فيلم في نشرة الأخبار لطرف لا يسير في خط ممولي الجريدة يعتبر عملاً غير حيادي. - إطالة حديث لشخصية سياسية عن مدة حديث مناوئها ليس من أعمال الحياد. - التعبير الذي يصدر من وجه المذيعة أو صوت المذيع قد يظهر موقفهما من الخبر الذي يقرآنه. وهذا ليس من قيم الحياد.(لقد تم إيقاف مذيعتين في التلفزيون المصري -قبل فترة- لارتكابهما مخالفات مهنية تتعلق بالانحياز، كإضافة جُمل غير موجودة في النص، تعبّر عن وجهة نظرهما الخاصة. كما ظهرت ملامح عدم التركيز والاهتزاز النفسي على وجه المذيعة الأخرى، بما في ذلك التفوه بكلمات إثارة وتهييج وتوجيه اتهامات للجميع -بمن فيهم رئيس الجمهورية- ولاحظت اللجنة التي فحصت التسجيل وحققت في القضية أن الانحياز ظهر في اختيار الضيوف، الذين يدعمون وجهة نظر المذيعة). - اختيار الضيوف من الأمور التي تكشف عدم الحياد إن لم يكن من ضمنهم من يخالفهم الرأي! ناهيك عن قيام المذيع أو المذيعة ب«تلقيم» الضيف صيغة الجواب بالتلميح المقصود، حتى يؤكد وجهة نظرهما. وهذا أيضاً بعيد عن روح الحياد. - قيام المحرر بعرض خبر يبرز وجهة نظره من الحرب الدائرة في بلده، بحيث يبين ضعف موقف مناوئي مناصريه أيضاً ليس من قيم الحياد. وعلى امتداد الوطن العربي عانى الإعلام كثيراً من فقدان الحياد، ودخل كثيراً في «شرك» الدعاية السياسية التي شوّهت عقول الأمة لحقب طويلة، وأضفت شرعية على «لا شرعية»، واغتصبت شرعية من «الشرعيين»! كانت محطة بي بي سي من أشهر محطات الحياد في الستينيات، حيث أتذكر «كليشيهاتها» الإخبارية التي تقول: يقول الفلسطينيون... ويقول الإسرائيليون. وكانت المحطة ملاذاً للباحثين عن حقيقة نكسة عام 67، عندما «باعتنا» إذاعة «صوت العرب» النصرَ «المُؤزر»، في الوقت الذي دكّت فيه الطائرات الإسرائيلية المطارات المصرية وأحرقت الطائرات المصرية قبل أن تطير. وتغلغلت القوات الإسرائيلية في البلدان العربية المجاورة، ووَسّعت من حدودها، وضربت بالقرار الأممي رقم 242 عرض الحائط. ثم برّر الإعلام العربي تلك الهزيمة بأنها نكسة! وظلت آثار تلك النكسة حتى اليوم. وفي السبعينيات عرفنا في المنطقة «الإعلام التنموي» وهو «بدعة» تم استجلابها لنا، عندما كنا صغاراً في الحقل الإعلامي! وأذكر هنا بحثاً علميّاً أجريته؛ حيث وجدت أن نشرات الأخبار في دولتين عربيتين مدتها عشرون دقيقة احتوت على خبرين عالميين، بينما كان جل وقت النشرات عن أخبار وزير الفلاحة، ونقابة العمال، واجتماع لجنة توعية المرأة! علماً بأن هذه نشرات سياسية رئيسية! إن حجب الأخبار عن المتلقين شكل من أشكال الانحياز. واستوردنا نحن في الخليج النموذج الإخباري من البلاد العربية! فأصبحت المراسم الرسمية والاستقبالات تستحوذ على وقت نشرات الأخبار، وأصبح التلفزيون يبث نص وكالة الأنباء -الذي لا يصلح بالضرورة للتلفزيون- كون الصورة تعبّر عن المضمون. وهذا أيضاً ليس من الحياد، لأنه يحرم المشاهدين فرصة الحصول على المعلومات والأخبار التي تحدث في العالم. الحياد الإعلامي مفقود، ولا ندري أين نجده! نقلا عن صحيفة الاتحاد