حين نتحدث عن الأقباط نقصد المسيحيين المصريين دون غيرهم من مسيحيي العالم . فلاشك أن المسيحيين المصريين أقباط. لكن الكثيرين يظنون أن كلمة قبطي مرادفة لكلمة مسيحي, وانها تدل علي كل من يعتنق المسيحية, ولهذا نتحدث عن الأقباط ونقصد المسيحيين, وهذا خطأ. فالقبطي في الأصل هو المصري أيا كان ديانته. وكما يحق لنا أن نتحدث عن الأقباط المسيحيين يحق لنا كذك أن نتحدث عن الأقباط المسلمين. وهذه حقيقة يجب أن يتذكرها ويعيها الذين يتعاملون مع المسيحيين المصريين وكأنهم جالية أجنبية أو أقلية عرقية تنحدر من أصول غير الأصول التي ينحدر منها المسلمون المصريون وتحمل اسما تتميز به عنهم, وهذا وهم مصدره أن الانتماء الديني كان مقدما في العصور الوسطي علي الانتماء الوطني, وكان هو الرابطة التي تجمع بين الناس إذا اتفقت عقيدتهم فتجعلهم أمة واحدة وتفرق بينهم إذا اختلفت عقائدهم فتجعلهم أمما أو مللا. لكننا ننسي أن الدين لم يكن واحدا في كل العصور, وأن قدماء المصريين كانت لهم ديانتهم التي آمنوا بها وبنوا ثقافتهم الشامخة علي أساسها, ثم انصرفوا عنها إلي المسيحية التي سادت قرونا عديدة, ثم دخل الإسلام مصر فغير اسمها ولغتها وأصبح دين الأغلبية. لم تكن مصر تعرف قبل الفتح العربي بالاسم الذي تعرف به الآن, وانما كان لها اسم مصري قديم مشتق من اسم عاصمتها القديمة منف التي كانت مركزا لعبادة الإله بتاح وهو عند أجدادنا القدماء الاله الخالق الفخراني الذي صنع العالم بيديه. ولهذا سموا مدينته حت كابتاح ومعناها بيت بتاح أو مقر روحه. ثم أطلقوا هذا الاسم علي مصر كلها كما فعلنا حين أطلقنا اسم مصر, وهو في الأصل اسم المدينة العاصمة علي القطر كله. وقد اختصر هذا الاسم حت كابتاح في النطق فصار كابتاح الذي ينطقه الأوروبيون ايجبت وينطقه العرب قبط. فالقبط أو الأقباط هم شعب مصر التي انفردت في العصور القديمة بخصبها وغناها وحضارتها الباذخة وعمارتها الشامخة فسماها اليهود ومن بعدهم العرب مصر لان المصر في اللغات السامية ومنها العبرية والعربية هي البلد الخصب والمدينة العامرة. ونحن نقرأ في التوراة أن أبرام إبراهيم انحدر إلي مصر لأن الجوع في الأرض كان شديدا وحين تتحدث التوراة عن الأرض الخصبة تقول انها كجنة الرب, كأرض مصر. ونجد مثل هذا في القرآن الكريم ادخلوا مصرا فان لكم ما سألتم وادخلوها بسلام آمنين. وفي أعقاب الفتح العربي لم نكن نسمي مصريين, وانما كان المصري هو العربي الذي دخل مصر مع عمرو بن العاص, أما أهل البلاد فقد ظلوا قبطا كما هم حتي أخذ بعضهم يعتنق دين الفاتحين فلزم التمييز بينه وبين من بقي علي دينه. الذين اسلموا وانضموا للفاتحين تسموا باسمهم فصاروا مصريين. والذين ظلوا مسيحيين ظلوا أقباطا. ومن الطبيعي ألا يقتصر التمييز علي التسمية, لأن العصور الوسطي في العالم كله لم تكن تعرف المواطنة أو التسوية بين ابناء الوطن علي اختلاف دياناتهم ومذاهبهم, بل كانت تميز بين من يتبعون دين الدولة ومن يتبعون ديانات أخري, المسيحيون في الدولة الإسلامية هم وغيرهم من الذميين لهم أن يؤمنوا علي حياتهم ويبقي من شاء منهم علي ديانته مقابل الجزية التي يدفعونها للحاكم, وهي نوع من الاتاوة. وليس لهم أن يشاركوا في السلطة أو يحملوا السلاح, ولاشك في أن الدول الإسلامية عاملت المسيحيين واليهود برفق إذا قارنا بينها وبين معاملة الدول المسيحية للمسلمين واليهود في العصور الوسطي. لكن المسيحيين واليهود لم يتمتعوا بحقوق المواطنة الكاملة في الدول الإسلامية, لان هذه الحقوق لم يكن معترفا بها حتي للمسلمين, وان كان التضييق علي غير المسلمين أشد. لم يكن للمسيحيين أن يضربوا النواقيس, أو يرفعوا أصواتهم في الصلاة, أو ينشئوا كنائس جديدة, أو يتشبهوا بالمسلمين علي أي وجه, بل كان عليهم أن يشدوا الزنانير علي أوساطهم حتي يمكن التمييز بينهم وبين المسلمين, وبعض الفقهاء يضيفون إلي هذه ضرورة أن تختم رقاب الذميين حتي يسهل التعرف عليهم! وقد ظلت هذه القوانين الجائرة سارية تفعل فعلها في الفصل بين أبناء الأمة الواحدة التي تحولت إلي أمتين, فلم تراجع ولم تخفف إلا في أواسط القرن التاسع عشر حين نهضت مصر نهضتها الحديثة علي يد محمد علي وخلفائه, وقرر سعيد باشا إسقاط الجزية وجعل الخدمة العسكرية واجبا وطنيا يؤديه المسيحيون كما يؤديه المسلمون. ثم تتابعت الخطوات علي طريق الخروج من العصور الوسطي واللحاق بالعصور الحديثة واقتباس حضارتها وبناء مؤسساتها علي أساس من الإيمان بالإنسان, والعقل, والديمقراطية, والفصل بين الدين والدولة, وتواصل الحضارات وسوي ذلك من المباديء والقيم التي ازدهرت في مصر بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين, ثم تراجعت بعد ذلك واختفت خلال العقود الأربعة الماضية. اختفت الديمقراطية, واختفت حرية الرأي, واختفت المواطنة, وتصدعت الوحدة الوطنية, واختلطت السياسة بالدين, وعادت الفتنة تطل بوجوهها البشعة وقرونها الشيطانية وتفرق بين المصريين والمصريين, بين الأقباط المسلمين و الأقباط المسيحيين تحت سمع الدولة وبصرها, بل بالسياسات التي تسير عليها الدولة وبالقوانين التي تتبعها. المسيحيون لا يشاركون في حكم بلادهم, فليس لهم وجود فاعل في البرلمان, ولا في الحكومة, ولا في الإدارة. ومعظم المصريين لا يعرفون شيئا عن مصر القديمة أو عن مصر المسيحية. واللغة القبطية وهي لغة أجدادنا لا مكان لها في برامج التعليم, والمناخات السياسية والثقافية لا تسمح الآن بظهور أمثال مكرم عبيد, وسلامة موسي, ولويس عوض, ونجيب الريحاني, وليلي مراد للأسباب ذاتها التي لا تسمح الآن بظهور أمثال محمد عبده, وقاسم أمين, وسعد زغلول, وطه حسين, والعقاد, وعلي عبدالرازق, وهدي شعراوي صحيح أن المسيحيين الآن لا يدفعون الجزية, ولا يلزمون بشد الزنانير, ولا تختم رقابهم,ولكن التمييز قائم علي قدم وساق. فالرجال لا يطلقون لحاهم. والنساء سافرات! نقلا عن صحيفة الاهرام