تمر العلاقات الألمانية الفرنسية منذ أن بدأ الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي في تنفيذ اجندته الخارجية بحالة من التوتر الملحوظ لم يعد في الامكان التكتم عليها برغم محاولات المستشارة الألمانية انجيلا ميركل ووزير خارجيتها شتاينماير ضبط النفس واخفاء الاستياء الألماني الرسمي عن وسائل الإعلام, فقد تسببت عملية السطو الفرنسية التي تعرضت لها جهود ألمانيا للافراج عن الممرضات البلغاريات في غضب شديد داخل المستشارية الألمانية من الرئيس الفرنسي الجديد الذي فرض زوجته فرضا في اللحظات الأخيرة ليحصدا معا هو وهي الثناء علي جهد ألماني استمر شهورا طويلة من المفاوضات مع ليبيا, وهي المفاوضات التي قادها شتاينماير ومعه مفوضة العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي بينيتا فيريرو فالدنر في صمت ودأب دون كلل أو ملل.. وقد بلغ الاستياء الألماني حدا دفع الحكومة الألمانية في اجتماعها الأخير إلي مناقشة التصرف الفرنسي وكيفية الرد عليه, كما ان شتاينماير عبر عن هذا الاستياء بوضوح عندما تجاهل ذكر أي جهد فرنسي في ترحيبه بالإفراج عن الممرضات وتركيزه علي فضل ألمانيا, حيث أوضح الوزير أن هذه النتيجة جاءت بعد مفاوضات طويلة وصعبة, مؤكدا شعوره بالفخر لأن ألمانيا استطاعت أن تشارك في هذا الانجاز من خلال رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي, كما كشف المسئول الألماني عن ان الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع ليبيا تمت بجهد ألماني وخلال فترة رئاسة ألمانيا الاتحاد الأوروبي. غير أن هناك أسبابا أخري تراكمت علي مدي الشهرين الماضيين تسبب صداعات لبرلين, ويعكف مستشارو ميركل علي تحليلها لبحث كيفية التعامل مع فرنسا ساركوزي في المرحلة المقبلة, حيث لم يعد هناك ادني شك لدي القيادة الألمانية في ان ساركوزي يسعي إلي إزاحة ميركل عن القمة الأوروبية ليصبح هو رقم واحد في أوروبا عن قريب, مستغلا بذكاء كراهية ميركل للمواجهات العلنية وتفضيلها حل المشكلات سرا عبر القنوات الدبلوماسية, وقد أكد خبراء مؤسسة السياسة والعلوم الألمانية القريبة من دائرة صناعة القرار في برلين مؤخرا آن الاستفزازات الفرنسية لألمانيا هي التي تؤكد صحة هذا الاعتقاد: بداية من اختيار وزير المالية الفرنسي السابق دومينيك شتراوس كان رئيسا جديدا لصندوق النقد الدولي, وهو الاختيار الذي تم بعد تشاور فرنسا مع جميع الشركاء الدوليين المهمين فيما عدا ألمانيا, مرورا بإصرار ساركوزي الشديد علي خلخلة استقلالية البنك المركزي الأوروبي والتأثير علي قرارات البنك في محاولة لتخفيض قيمة اليورو امام الدولار من أجل زيادة القدرة التنافسية للصادرات الفرنسية برغم المعارضة الألمانية الصريحة لهذه المحاولات وكذلك رفضه المعلن لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي برغم التزام الاتحاد بالجدول الزمني للمفاوضات مع تركيا, غير أن أكثر ما تسبب في استياء الحكومة الألمانية فقد كان بالتحديد موقف فرنسا من عملية السلام في الشرق الأوسط من ناحية ومشروع انشاء اتحاد للدول المتوسطية من جانب آخر. ففي خلال لقاء وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية في بورتوروز في سلوفينيا ووفقا لتصريحات مسئول ألماني رفيع بالخارجية, اخرج وزير الخارجية الفرنسي الجديد برنارد كوشنر من جيبه مسودة خطاب موجه إلي توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية الدولية للشرق الأوسط يطالب بتعديل مسار سياسة اوروبا الحالية تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط, حيث يطالب الخطاب بعدم تجاهل حركة حماس والتوقف عن عزلها ويطالب بضغوط علي إسرائيل لتبدأ في تقديم تنازلات للفلسطينيين وعلي قدر ما حازت المبادرة الفرنسية تأييد الوزراء الأوروبيين الحاضرين بقدر ما أغضبت برلين كثيرا ووصف الدبلوماسي الألماني الخطاب بأن مكانه الوحيد هو صندوق القمامة. أما سعي ساركوزي المحموم للترويج لمشروع الاتحاد المتوسطي فتنظر إليه برلين بقدر كبير من الشك بل ورفضته كل من المستشارة الألمانية ووزير خارجيتها فعليا في تصريحات دبلوماسية. وفي ردها علي موقف ألمانيا من المشروع الفرنسي لم تكن ميركل أقل وضوحا عندما أوضحت أن عملية برشلونة لم تمت وأنه يمكن تنشيطها, مؤكدة دعمها لها شخصيا عندما شاركت في المؤتمر الذي انعقد بمناسبة مرور عشر سنوات علي اطلاقها وأبدت رغبتها في تنشيط التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول الحوض ولكنها أعلنت رفضها الصريح لأن يتم ذلك التعاون دون مشاركة دول الاتحاد الأوروبي الاخري غير المطلة علي حوض المتوسط وفي مقدمتها ألمانيا بالطبع باعتبار تلك الخطوة من شأنها ان تؤدي إلي انقسام في الموقف الأوروبي, بحيث تركز بعض دول الاتحاد علي التعاون مع شرق أوروبا وجزء آخر علي التعاون مع دول جنوب المتوسط وفي ذلك تعارض تام مع سياسة الاتحاد الأوروبي. ويري تقرير قدمته مؤسسة العلوم والسياسة الألمانية لأعضاء البوندستاج الألماني يتضمن تحليلا لتوجهات الرئيس الفرنسي الجديد, أن المشروع يعد خطوة جريئة من ساركوزي وتهدف بالأساس إلي استعادة نفوذ فرنسا في إفريقيا وممارستها لدور قيادي في حوض البحر المتوسط, وأن محاور التعاون التي أعلنتهاف فرنسا لهذا الاتحاد مثل التنمية والمشاركة الاقتصادية والتنموية بين دول ضفتي المتوسط, والتعاون البيئي لإنقاذ البحر المتوسط وتحويله إلي أحد انظف بحار العالم وايضا التعاون علي الصعيد الأمني في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة, ثم أخيرا تعميق حوار الحضارات, هذه المحاور في رأي المحللين الألمان تخفي وراءها أهدافا فرنسية أخري, في مقدمتها وقف تدفق الهجرة غير الشرعية, خاصة من الجزائر والمغرب من خلال تنظيم الهجرة المنتقاة للخبراء وأصحاب الكفاءات النادرة, كذلك تهدف المباردة إلي احتواء تركيا في الاتحاد بعيدا عن الاتحاد الأوروبي, بالاضافة إلي أمل القيادة الفرنسية في ممارسة دور أكبر في عملية السلام في الشرق الأوسط والمساهمة في تحقيق تقارب فلسطيني إسرائيلي, وأخيرا دعم عملية التحول السياسي والديمقراطي في الدول المحيطة بفرنسا, وحسب التقرير الألماني لا تختلف ألمانيا مع فرنسا في أهمية بل ضرورة الاسراع في عملية التحول الاقتصادي والسياسي لدول حوض البحر المتوسط مع الاتحاد الأوروبي غير أن استراتيجية ساركوزي تعتمد علي ادوات تتعارض مع عملية برشلونة, الأوروبية المولد, وبالتالي تغذي المبادرة الفرنسية شكوك ألمانيا في رغبة ساركوزي اساسا في التعاون مع الاتحاد الأوروبي وآلياته ومؤسساته, وتؤكد انه يطرح بديلا فرنسيا لعملية برشلونة. غير أن رأيا آخر يعتد به لوزير الخارجية الألمانية الأسبق يوشكا فيشر خرج ليهدئ قليلا من المخاوف والشكوك الألمانية. فقد طالب بلاده بالتروي للتأكد من أن ساركوزي لا يستخدم مشروع الاتحاد المتوسطي كورقة ضغط يهدد بها شركاءه الأوروبيين حتي تصطبغ السياسة الأوروبية من جديد بصبغة فرنسية وينصح السياسي المخضرم حكومة بلاده باستيعاب اندفاع ساركوزي تجاه إفريقيا والبحر المتوسط من خلال التركيز علي نقاط الالتقاء لا الخلاف مع فرنسا, وبخاصة المشروعات الألمانية الفرنسية المشتركة الكبري داخل الاتحاد الأوروبي مع طرح المبادرات المشتركة بين البلدين علي الصعيد الأمني والعسكري علي طريق صياغة سياسة خارجية وأمنية أوروبية مشتركة, أي باختصار علي برلين ان تبقي ساركوزي دوما منشغلا بقضايا الاتحاد الأوروبي ودور المحور الألماني الفرنسي في تطويره.