مِن الوهلة الأُولى تبدو المقابلة غير عادلة، واقتران النَّجف بلندن صعب. لكن لا أخفيكم أنني كنت على مدى مشاهدة افتتاح الأولمبياد 2012 مساء الجمعة الماضي بلندن تشغلني تلك المقابلة والمقارنة في الوقت نفسه. فما بين المقابلة والمقارنة شيء مِن الاختلاف، الأولى للمعارضة والثانية للمشابهة، يوضح ذلك القائل: "عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه/ فكل قرين بالمقارن يقتدي" (الخولي، قطوف لغوية). فإذا كانت أول جامعة تأسست بلندن العام (1836)، وبحدود إدارتها تأسست كامبردج 1209 ميلادية، ثم أكسفورد (1220) ميلادية، فجامعة النَّجف، أي حوزتها، فتحت (1056) ميلادية، المصادف العام (448 ه)، يوم نقل إليها مؤسسها أبو جعفر محمد بن الحسن الطُّوسي (ت 460 ه) كتبه وتلامذته، وصارت قبلة للتعليم، وظلت كما هي عليه. لكن بعد تسعة قرون اعترضت النَّجف على فتح مدرسة للبنات، عندما نوت الحكومة افتتاحها 1929، فقال صالح الجعفري (ت 1979) يومها: "حناناً يا أماثلنا حناناً/ حناناً أيها المتزمتون/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقة فاتبعونا (الخاقاني، شعراء الغري). وقال محمد مهدي الجواهري (ت 1997) معترضاً على اعتراض فتح المدرسة: "غداً يمنع الفتيان أن يتعلموا/ كما اليوم ظلماً تمنع الفتياتُ" (قصيدة الرجعيون، الديوان). تابع العالم حفل افتتاح الأولمبياد الساحر بلندن، لِما قُدم فيه مِن فنون يصعب تخيلها، وأن معظم الذين نفذوها وأداروها كانوا مِن المتطوعين. عُرض تاريخ لندن مِن نشأتها وعسرها إلى تقدمها وترفها، حتى صارت لا تغيب عنها الشَّمس. ستقولون إنه الاستعمار! لكن ما منعنا أن نكون مستعمرين، ونكتشف ثرواتنا، وهي لآلاف السنين مخفية تحت الأرض؟! لندن التي عانت مِن هيمنة دينية قاسية، مثلها مثل بقية مدن أوروبا، في لحظة ميزت بين إدارة الآخرة وإدارة الدُّنيا، وهذا هو جوهر ما سمي بالعلمانية. ليس هذا شاهد مقالنا، فلا نريد للنَّجف أن تكون لندن ولا للندن أن تصبح النَّجف. لكنها العاطفة الآسرة لبلد مثل العِراق، ومدينة مثل النَّجف، تجعلنا نعيش المأساة، فبعد قضاء عقود مِن طلب الأمل، يصدق علينا قول الجواهري: "مضى حمزة الصَّياد يصطاد بكرةً/ فآب وقد صاد العشي غرابا". العام 2012 كتب للندن استضافة الأولمبياد بعد استضافتها له العام 1948، وكتب للنَّجف في العام نفسه أن تُختار عاصمة للثَّقافة الإسلامية، وهي الأولى أن يجتمع فيها مؤتمر دولي على حد اطلاعي. ليست لندن بحاجة إلى الأولمبياد مثلما النَّجف بحاجة إلى أولمبياد الثقافة. فاشرأبت الأعناق إليها، وخصوصاً أن الحمى الطَّائفية سارية ببلاد المسلمين. كم كانت فرصة عظيمة للنَّجف أن تجمع مسلمي العالم، وليس هناك معترض على اصطفائها لهذه المهمة. فلو اعترض معترض، لأي سبب كان، سيطول البكاء على حرمانها مِن حقها في أن تكون عاصمة للثقافة، وسيقال إنه بغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (اغتيل 40 ه)، هذه حقيقة لا نغفلها، فالألسن مهيأة. رحب العالم الإسلامي أجمع، والوفود عُينت وكلُّ وفد برئاسة وزير ثقافة بلاده، وكنا نستخبر ماذا جُهز، فقيل التخطيط حصل والتنفيذ يجري، والأموال رُصدت، وخلايا نحلٍ تعمل ليل نهار كي تنتج عسل مؤتمر الثقافة الدُّولي، بعد أن شهد العديد مِن المدن الإسلامية التاريخية استضافته، فكتبتُ حينها، استقبالاً للمهرجان الآتي: "بهذا الزَّخم الأدبي والثقافي التاريخي سيقصد وزراء الثقافة مِن مختلف البلدان، بصحبة المثقفين والشُّعراء، فماذا أعدت النَّجف، وهي المختارة ضمن برنامج عواصم الثقافة الإسلامية، ومِن قِبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، والبداية كانت بمكة 2005، ثم حلب 2006، فطرابلس 2007، والإسكندرية 2008، والقيروان 2009، وتريم 2010 وتلمسان 2011"! لكن النَّجف خيبت الآمال، ومِن داخلها، أعني ليست هناك مؤامرة منعت مِن أن تكون هذه المدينة عاصمة للثقافة، وكان الاحتفاء شاملاً، ليس هناك مِن تصريح لدولة أو شخصية مضاد، ونقتبس مِن أبي نواس: "فكلُّ النَّاس حَسنَ واستجادا". استقبالاً لهذه المناسبة اتصلت بيَّ المجلة "العربية" السعودية الصَّادرة بمدينة الرِّياض، تنوي نشر ملف عن النَّجف كعاصمة ثقافة، وطلبت مني مقالاً في تاريخ وثقافة المدينة، ولا أخفي استغرابي، لأني كنت نسيت المناسبة، فالطلب جاء قبل شهور مِن موعدها، فسألت وما هي الغاية؟! فقيل لي: أن النَّجف في العام القادم ستكون عاصمة الثقافة الإسلامية، فلابد مِن الاحتفاء، وكان كذلك ونشر الملف وفيه مقالتي، مع أخبار ولقاءات تخص المناسبة. عودة على بدئه، لماذا نجح الأولمبياد بلندن؟ فالأمر معروف، المدينة تجاوزت العصور بتمدنها وبانفتاحها، وغدت عاصمة للأجناس كافة، ومعبراً بين أقطاب الأرض، مع أنها هدف للإرهاب، ولم ينس الأولمبياد ضحايا تفجيرات يوليو 2005، فقد جسدها في إحدى الفنون التي قُدمت، هكذا فهمت المشهد. أما اعتذار النَّجف، في آخر لحظة عن عقد هذه القمة الثقافية فأوهمني أمراً. بطبيعة الحال، لا ينفصل وضع هذه المدينة عن الوضع العراقي العام، وهو الأسوأ ربَّما في التاريخ القريب، قد يرى هذه الصورة الجميع ما عدا السُّلطة نفسها، لأنها لا تنظر أبعد مِن ذاتها، وترى في أي كلمة ناقدة تُكتب أنها مؤامرة، وإعلامها الصَّادق وإعلام الآخرين كاذب، في هذا الأمر بالذات هي نسخة طبق الأصل مِن سلفها. لقد عشت لحظات افتتاح الأولمبياد بلندن مبهوراً بالإنجاز، وحماية الملايين المتدفقة مِن آفاق الدُّنيا بإتقان. وكيف تمت إدارة الأمن والفن بحرفية فائقة، وفي الوقت نفسه عشت الخذلان أن تعتذر النَّجف قبيل لحظات، مِن عقد المؤتمر الثقافي الدُّولي، لعجز العِراق عن توفير المناخ المناسب، فالمعركة جرت بين الفاسدين بأموال المشروع، وغير المؤهلين لإدارته، وعلى هذه الحال وبقاء هذه الكائنات على مقدرات البلاد سيعقد الأولمبياد، وهو مناسبة عظمى، في أفقر مدن العالم، ولن تتمكن مدينة عراقية مِن فك أسرها مما هي فيه. قال علي بن جبلة العكوك (231 ه): "دجلة تسقي وأبو غانم/ يَطعم مَن تسقي مِن النَّاس" (الثعالبي، خاص الخاص). وها هو الحال لا دجلة تسقي ولا أبو فلان يطعم! وربَّما يسأل سائل مَن هذا أبو غانم؟! هو حُميد بن عبدالحميد الطُّوسي (ت 210 ه)، أحد كبار قادة عبدالله المأمون (ت 218 ه)، كان يندبه للمهمات الصَّعبة عادة. نقلا عن صحيفة الاتحاد