مملكة البحرين قررت أن تغادر قمر"عربسات" ابتداءً من هذا الشهر، وأعلمت الجميع لماذا اتخذت هذا القرار، كيف عليها أن تبقى -كما قالت- على قمر عربي تبث عليه قنوات ممولة من إيران تقوم "بالتحريض على الطائفية والعنف، والإرهاب، وزعزعة الأمن والاستقرار، بما يخالف كافة الاتفاقات والمواثيق العربية والدولية، وإشاعة الأكاذيب والإساءات بحق القيادات السياسية والمجتمعية في البحرين، والمملكة العربية السعودية". البحرين قالت في بيانها إنها قدمت لإدارة القمر أدلتها وشكواها ومنذ بداية العام الماضي لكنها لم تتلق رداً مقنعاً منها. إدارة "عربسات" استمرت في صمتها طوال الفترة الماضية، إلا أنه بعد قرار البحرين إغلاق موقعها على القمر، قررت الجمعية العمومية خلال اجتماعها الأخير في بيروت "وضع ضوابط وأسس تمنع تمزيق الوحدة الوطنية للدول وإثارة الطائفية، إلى جانب مراقبة المحتوى الإعلامي للفضائيات بحيث لا تهدد الأمن القومي لدول المنطقة". عربسات التي هي اليوم واحدة من أهم المؤسسات الدولية في البث وتشغيل "الستلايت"، بامتلاكها أكثر من أربعة أقمار تغطي جميع المنطقة، وعندها اتفاقيات دولية توصل بثها إلى مختلف أنحاء العالم، وتضم ما يزيد على 450 قناة مختلفة اللغات والهويات، ينظر لها كما صرح مديرها ذات مرة أنها عبارة عن مشروع استثماري، وأنه يدير أعمالها بروح تجارية. هذه نظرة جيدة في مجال الأعمال والاستثمار، فدائماً ما ترتبط المشاريع الحكومية بحكايات الفشل، وإذا دخلت فيه أكثر من حكومة عربية فهذا يحتم فساده ونهايته القريبة، كما علمتنا الكثير من التجارب العربية المشتركة. فهي نجحت كمشروع رائد في الاتصالات وتشغيل التكنولوجيا، والشركاء وحدهم يعرفون حجم الجدوى والمكاسب التي حققتها كمؤسسة تجارية. لكن الشق الأدبي في هذا المشروع، هو مثار النقاش والاختلاف. مهم أن تقدم "عربسات" التقنيات التي تساهم في تطور وانتشار الإعلام التلفزيوني العربي تحديداً، وأن تكون مؤسسة تجارية ناجحة، لكن الأهم هو أن تكون لها رسالة إعلامية، وعليها مسؤولية مهنية أخلاقية، فمطلوب منها أن تفهم -ولا أقول تمارس دور الرقيب الإعلامي التقليدي- ما يبث من خلال أقمارها. فالقنوات الفضائية التي تستخدم شبكتها معظمها مجانية وتدخل من الفضاء إلى كل الغرف المغلقة، وهذه بدورها تساهم في صناعة الرأي العام وتؤثر في المجتمعات، فالتلفزيون هو أسرع وسيلة إعلامية وأكثرها تأثيراً عند مختلف الشرائح المجتمعية بحكم ميزة الصورة والنقل المباشر. نؤمن بأنه لا حيادية في الإعلام، لكن توجد معايير ومواثيق وأصول للمهنة. وهو التقليد الذي يلتزم به الإعلام الغربي والإعلام المحترف في أي مكان من هذا العالم. نعم هناك وعي، وما عاد المشاهد يصدق أو يمارس جولة البحث والاستماع إلى كل المحطات الموجودة عنده والتي تعد بالمئات، واكتفى بقنوات معدودة عهد عندها المصداقية أو استأنس لما تبثه من برامج. لكن يبقى ما تمارسه هذه القنوات المشبوهة من تشويه للوقائع وتلوينها يثير البلبلة خاصة في أوقات الأزمات، ويخلق مزيداً من الانقسامات وتحديداً عند أصحاب العقول الضيقة والذين يتابعونها ويأخذون بقولها على أنه الحقيقة. فالإعلام المغرض المتخصص في صناعة ونشر الإشاعات والأكاذيب موجود في مختلف الأزمنة والمجتمعات، تختلف فقط الوسيلة وتطور العصر والتكنولوجيا المستخدمة وعقلية الناس المستقبلة لهذا النوع من الإعلام الخبيث. في بداية الثمانينيات بثت قناة فرنسية كانت تتواجد على عربسات فيلماً إباحياً، فصدر قرار ضدها في نفس الليلة لأنها خالفت الشروط وتم طردها، رغم محاولتها الاعتذار وتبريرها بأنه خطأ فني غير مقصود، وأنها تحتاج إلى فرصة لتصحيح الصورة. لكن إدارة القمر لم تتنازل وأصرت على حذفها، وحل بديل فرنسي متوازن بسرعة، فقائمة انتظار مكان على القمر العربي كانت طويلة آنذاك. قبل فترة، الإدارة ذاتها وجهت خطاباً شديد اللهجة إلى القنوات التي تبث السحر والشعوذة، فطلبت منها أن تتوقف فوراً، لأن ذلك يخالف شروط الاتفاق وإلا فسيتم طردها من عربسات. احتج علماء الدين على الدجل والاستغلال الذي تمارسه فضائيات الوهم، فاستمعت لهم الإدارة، واستجابت فوراً لمطلبهم. وفي الحالتين كانت عربسات حازمة، اتخذت قرارات سيادية راعت مصلحة المستهلك الجمهور، وحافظت على ترسيخ أخلاقيات المهنة، ولم تفكر كم ستخسر مادياً لو سقطت هذه القنوات. فلماذا اليوم ردة فعلها بطيئة، ولا قرار واضح لها في ذلك، رغم أن هناك طلباً رسمياً من دولة تقول إنها تتعرض إلى هجوم إعلامي يمس السيادة والدين والأخلاق ويثير الفتن، وأنها قدمت الأدلة والبراهين على ذلك. هل هنا عربسات تدافع عن حرية الإعلام بصمتها على المطلب البحريني؟ كلنا سنقف مؤيدين لعربسات لو كان الأمر كذلك، لكن القضية لا علاقة لها بمفهوم الحرية، فهناك قنوات دولية تنتقد البحرين والسعودية ودول أخرى، مثل أل"بي بي سي" و"سي أن أن" وغيرهما من محطات تلفزيونية، لكن لم نسمع عن احتجاج يطالب بحجب هذه القنوات أو طردها من الفضاء العربي، لأن هذه قد لا ترضى بعض الدول عن تغطياتها أو بعض برامجها، لكنها محطات تحاول أن تلتزم بالموضوعية، وتطبق معايير المهنية في التناول الإعلامي. والمثير للسخرية أن إيران، الممولة للمحطات المسخّرة للهجوم على البحرين ودول المنطقة، هي من حاول مثلاً التشويش على محطتي "الجزيرة" و"العربية" على قمر عربسات خلال تغطيتهما جرائم النظام السوري، كما أثبتت تقارير الرصد التي أعلن عنها! إيران اليوم عدوها "الدعائي" هو إسرائيل وأميركا، و خصمها الحقيقي الذي تحاول أن تضايقه هم جيرانها العرب وتحديداً دول الخليج، مع أنهم في الواقع لا يكنون لها مثل هذه النظرة، فهناك إرث من العلاقات التجارية والمصالح المشتركة بينهما، وحتى على مستوى البعد الديني الذي ترفع شعار حمايته، كان هناك نسيج واحد يجمع الشيعي والسني، هو الولاء للوطن الذي ينتمون إليه. إيران هي من زادت الشرخ بين أطراف هذه الأمة المسلمة، وغذت هذا الصراع الذي لا نعلم ما الهدف البعيد منه، وإلى أين تريد أن تصل به! نقلا عن صحيفة الاتحاد