لايمكن ان يمر الشهر الفضيل دون ان نتمهل عند اهم ظواهره الدرامية في التليفزيون واهم هذه الظواهر دراما( رجل غني..فقير جدا) الذي استطاع بها صاحبها ان يقدم دراما واعية واضحة تجمع بين الدراما المسرحية والسينما في مسلسل فعلي الرغم من هذا الكم الهائل من الدراما التي قدمت هذا العام, فان هذا العمل يمثل اهم ما قدمه محمد صبحي في الكتابة' سيناريو وحوار وقصة واخراج' فضلا عن دوره الواعي استطاع ان يقدم لنا هذا العمل المهم.. عبراطار كوميدي اجتماعي سياسي لم بستطع ان تغفل عديد من الظواهر السلبية في حياتنا, ان محروس محفوظ وهذا هو اسمه داخل النص_ وباختصار- يمتلك ثروة هائلة كونها- كما قدمت لنا بذكائه وفطنته بإقامة مجموعة شركات وأرض' الوادي البراني' التي تقع خلف أرضه ويسكنها مجموعة من البسطاء ويسعي لإخلائها من السكان فيجد نفسه في مواجهة العديد من سكان المنطقة بمختلف الطبقات ومنهم تاجر المخدرات, ويدخل محروس(لاحظ دلالة الاسم) في( المحروسة) صراع مع رجل أعمال آخر ويتسبب في غرق صفقة أسلحة وضع فيها كل أمواله فيتحول إلي رجل فقير يسكن حجرة فوق سطح أحد المنازل.. ينتهي المسلسل بحلقاته المتوالية الواعية واحداثه الثرية بالرموز التي تتحول الي واقع يجسد في وجدان اي مشاهد لهذه الدراما ولا ينتهي ما يثيره.. ان الرجل الغني جدا يصبح فقيرا جدا, لكنه يصبح رجلا غنيا جدا بوعيه وحركته الايجابية.. ** ومن ذلك انه لم يجد سوي البسطاء من الناس في ارض(الوادي البراني) ليعمل معهم, حتي اذا انتهي به العمل الي هذا المصير, فانه لايجد جانبه احدا من رجال الاعمال(لبيب السحلاوي) ليقيله من عثرته او يحميه من الشر الذي يحيط به..لا يجد سوي بسطاء أرض الوادي البراني الذين يتعاطفون معه, ويكتشف أن تلك الأرض لا تصلح للبناء ويصبح من المتعاطفين والمتعاونين- بالتبعية- مع سكان الوادي..وهو مايحمل دلالة ان الرجل الغني (بالثراء) اصبح غنيا بوعيه للناس العاديين في ارض(المحروسة); وهو مايعكس وعي الانسان المصري اياكانت مكانته الاجتماعية بالجمهور العريض, يصبح الرجل المهم احد الرجال العاديين الذي لم ييأس, رغم التكالب عليه من ان ينحني للانسان العادي في( الوادي) الذي نعيش فيه جميعا.. ان الرجل مهما كان ثرائه او تعليمه لايمكن ان يظل بعيدا عن الناس بجميع فئاتهم في هذا الوادي الذي نعيش فيه جميعا ونستمد من رموزه الوعي والصمود ضد الغدر والعدوان الذي عرفه هذا الانسان عبر سبعة آلاف عاما.. ** ومن ذلك ايضا, ان هذا الرجل الواعي(محروس..)يظل واعيا لدور رجل الاعمال الذي تفاقم الان بشكل مريع ايا كان اسمه هو هنا( السحلاوي).. ان رجل الاعمال هنا يمثل هذه الفئة التي لم تعرف طلعت حرب وانما عرفت(البيب السحلاوي) داخل النص وخارجه, هذا السحلاوي الذي تسلل الان الي عديد من المهن والوظائف و استطاع ان يدلف الي الوزارة في تشكيلها الاخير ليستطيع_ مع اقرانه من رجال الاعمال- ومع عائلته من رجال السياسة ان يصبح قويا انانيا الي حد بعيد ان يكون وراء مآسي كثيرة عرفناها في الحقبة الاخيرة, ففي الوقت الذي يكون وراء غرق(العبارة) وتلاشي احلام البسطاء في قاع المحيط, يكون شاهدا ازاء احتراق هذا الانسان في هذا( القطار) او ذاك ممايزخر به العمل من رموز كثيره لا غموض فيها قط.. ان محروس لم يستطع ان يكون السحلاوي قط, بل سعي للتصدي لهذا الرمز القبيح في عالمنا المعاصر..** في هذا الاطار ايضا يبدو الرجل الغني جدا حين يصبح فقيرا جدا مثالا لهذا الغني جدا بوعيه لما يحدث في مجتمعه_ وهو دور الفن الهادف في المقام الاول_ والا ما هي مهمة الفن!!؟؟- ومن ذلك, لم يتردد في المشاهدالكثيرة في ان يشير عبر زوجاته الي دور الدول الكبري سواء بعلاقة بعضها معنا بشكل ايجابي او علاقة بعضها معنا بالشكل السلبي وهو مايصل به الي ما انتهي اليه حالنا من انه لم يتبق لنا بعد بناء السد العالي او الاوبرا..الخ الا عمل واحد هو( شوي الدرة او البطاطا); وهو مايحمل من المرارة بقدر مايحمل من الالم الذي نعيش فيه في بدايات الالفية الثالثة. **وقريبا من هذا حين ركز في نهاية النص, وفي مشهد طويل الي افتقادنا( للقدوة); اين هي القدوة علي مستوي الطموح الوطني الجمعي او علي مستوي الطموح الفردي ؟ اننا نحيا في هذا العالم الذي لا يعيش فيه محمد عبده او سعد زغلول او طه حسين او العقاد..الي غير ذلك. نحيا في عالم افتقدنا فيه الوعي بالنهضة التي عرفها اجدادنا في حين رحل الطهطاوي الي الغرب وعاد بوعي عربي متين, او حين كان محمد عبده واعيا اشد الوعي بالدور التنويري حين نقترب من التراث- ايا كانت اشكاله_في مواجهة هذا الغرب العاتي, وفي عصر افتقدنا فيه الكثيرين في القرن التاسع عشر.. ان محروس يلتفت حوله ويصيح( اين القدوة) ولايلبث ان يحركه الواقع المؤلم فيدور في امامية المشهد(الذي يقترب من امامية المسرح) ليقول ويزيد علي بدهيات غياب الانسان الواعي, فلم نعد نعرف العالم_ كما عرفناه_ في عصورنا الاسلامية الزاهرة, كمالم نعد نعرف المثقف خليفة العالم في العصر الحديث.. ** وكما يمكن ان يقال عن( القدوة) في الثقافة والتأصيل الديني, يقال عن الوعي لدي سادتنا ممن يخرجون الينا كل يوم من الفضائيات الكثيرة, ويفتون في الارقام التي يعلن عنها بقصد الربح من الافتاء بالدين او الربح من تفسير الاحلام بوازع ديني معلن عنه.. وبعد, ان هذا الرجل الغني جدا بوعيه- خارج النص- لاقي الكثير لانتاج هذا العمل المهم, فقد اشارت الادراج بتراجع مدينة الانتاج الاعلامي عن انتاج هذا المسلسل(لاسباب غير معلنة) في وقت وصلت الميزانية فيه الي حد مروع(8 ملايين جنيه مصري), فضلا عما واجه المسلسل الكثير من ضغط الاعلانات, و فرض(شريط اخبار) اثناء عرض المسلسل.. الي غير ذلك.. ومهما يكن,يظل هذا العمل واعيا بوعي صاحبه داخل النص وخارجه, وبما قدمه طيلة الشهر الفضيل بما يجب ان يقدمه الفن..وبما يجب معه ان نقدم اليه التحية..