إذا كنت لا تستطيع دخول مكتبك.. فكيف تحدثني عن الاستثمار الأجنبي في مصر؟!.. كيف يأمن أي مستثمر على نفسه وماله؟!.. فوجئ الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء بهذه الكلمات في تعقيب رئيس وفد اقتصادي أجنبي خلال اللقاء الذي تم في المقر المؤقت لرئيس الحكومة بوزارة التخطيط وبعد شهر من توليه المسئولية.. التعقيب المفاجئ للمسئول الأجنبي كان بعد إسهاب في الشرح من الدكتور الجنزوري عن الوضع الاقتصادي المصري والتيسيرات التي تستطيع أن تقدمها الحكومة في دولة واعدة بكل إمكانيات ومجالات الاستثمار.. وأن التعاون الدولي وجذب الاستثمارات ضرورة لإنقاذ مصر من كبوتها لأن الوضع سييء ويسير إلى الأسوأ إذا لم يتم استنهاض الهمة للخروج من المأزق الراهن. وفي 26 فبراير وقف د. الجنزوري أمام مجلس الشعب خلال إلقاء بيان الحكومة مستنجدا حتى البكاء.. مصر لم ولن تركع وستعبر أزمتها المالية.. وعود العرب والغرب دخان في الهواء وعلينا الاعتماد على أنفسنا.. الإنتاج يتراجع والدخل يقل ولابد أن ننهض قبل فوات الأوان. لم تكن تحذيرات رئيس الوزراء بجديدة.. فطوال الشهور الماضية لم يكل اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشئون المالية عن صرخاته المهمومة في عدة ندوات عقدها للإعلاميين والسياسيين والمستثمرين والمهتمين بالشأن العام.. انتبهوا.. الوضع خطر.. خطر.. ولا يصح أن نتغافل نداء مصر المقدس وثورتها الطاهرة.. ما هكذا يجب أن يكون حالنا ولا نرضي لمصر مد يدها لنأكل طعام يومنا. هكذا الحال مستمر في تدهور.. وهكذا البلد كله في غيبوبة.. لا هم لأحد غير صراع منافسة الرئيس وخناقات البرلمان.. وبنود الدستور ولجنته.. واستعراض القوة الوهمي.. وإهانة القانون ودهسه بالأحذية.. والكل سعيد ويبتسم.. لم نع شعبا وحكومة وسلطة.. أن الانشغال ببناء المؤسسات الدستورية لا يعني عدم السير في خط متوازن مع الحفاظ على كيان مصر الاقتصادي.. وكأن الناس لا تحتاج إلى عمل وعلاج وطعام وشراب.. وأن كل همها من يشارك في لجنة الدستور أو يفوز بمقعد رئيس الدولة!!.. وإذا سارت الأمور هكذا دون إجراءات فورية ومواجهات للفوضى أكثر حسما.. فلن يجد الرئيس دولة يديرها.. لأنها حينذاك ستكون "تل خراب". ولأن زمار الحي لا يطرب، ولم نستمع لصرخات الخبراء والمسئولين المصريين.. فلعل الحذر القادم لنا عبر البحار من الخبراء الأجانب يثنينا عن حالة البلاهة لدرجة البلادة التي نعيشها.. فالشهادات الدولية، يجب التعامل معها بجدية.. فهي ليست تهوين حكومة حتى لا تبدو عاجزة.. ولا تهويل معارضة حتى تؤكد فشل الحكومة. ولكنها شهادات من أهل العلم والخبرة.. لن يضرهم أننا في تراجع خطير.. ولا يسعدهم أن اقتصادنا بالقوة التي ينافس بها الاقتصاد الأمريكي أو يخاف منه الاتحاد الأوروبي أو أنه سيزيح النمور الآسيوية! هذه الشهادات نذير الشؤم لم تلق الاهتمام الكافي رسميا وسط الصخب السياسي، رغم أن الحكومة ليست المعني الأول بهذا الصخب.. ولن يرحمها أحد عندما تفشل في توفير الخبز للناس.. وبنفس القدر ينغمس الإعلام، "صحافة وتليفزيون" في ملاحقة أحداث الانتخابات الرئاسية التي يلهث وراءها الناس.. الإعلام والأحزاب والبرلمان تتحمل مسئولية ضمنية.. عن الخطر القادم، ولكنه مسئولية أساسية للحكومة والمجلس العسكري والبرلمان لإنقاذ مصر من كارثة اقتصادية لن يرحم التاريخ من تراخي في مواجهة الفوضى والتهاون في تطبيق القانون.. واتخذ من القرارات العاجلة ما ينقذ مصر من الإفلاس. ثلاثة أخبار نشرتها صحيفة "الأخبار" يوم الأربعاء الماضي الأول.. في تقرير اقتصادي لصحيفة "ديلي تلجراف البريطانية" يقول: مصر تحتاج 21 مليار دولار حتى لا تعلن إفلاسها هذا الصيف، وأنها تحتاج إلى خطة تقشف تهدد بالاضطرابات، وأن خزانة الدولة شبه خاوية وغير قادرة على استيراد السلع الأساسية مثل القمح والوقود في غضون شهور عديدة. وأن الاقتصاد المصري يعاني أضراراً بالغة نتيجة انهيار السياحة والاستثمارات الأجنبية وهبوط عائدات الضرائب والسحب من الاحتياطي الأجنبي. الخبر الثاني.. في تقرير لصندوق النقد الدولي يقول: معدل النمو في مصر يتراجع إلى 5.1٪ هذا العام.. أما الخبر الثالث فيقول.. البورصة تخسر 7.2 مليار جنيه.. وهو الخبر الذي أصبح معتادا للقارئ مثل مواقيت الصلاة وأسعار العملات. الأخبار الثلاثة.. من الممكن القول بأنه لا جديد فيها.. هذا ما يحذر منه الخبراء والمسئولون طوال الشهور الماضية.. ولكن الأهمية في شهادة الاقتصاديين العالميين لصحيفة ديلي تلجراف وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات المالية، الكفيل بها أن تساعدنا، وإذا لم نأخذ تحذيراتها مأخذ الجد، لن نستطيع إقناعها بحاجتنا العاجلة للعون، ولذلك كان غريبا التعقيب الفوري من وزير المالية ممتاز السعيد عن هذه التقارير نافيا ما تضمنته من تخوفات مواجهة مصر للإفلاس.. مشيرا في أرقام ومصطلحات لا يفهمها المواطن العادي عن تحسن في إجمالي الدين العام الخارجي والمحلي خلال العام الماضي.. وكأنه المسئول عن أزمات مصر الاقتصادية.. يا سيادة الوزير كلامك يتناقض مع الواقع الذي يعيشه المواطن.. والأزمة التي تعاني منها مصر.. ويحتاج إلى مزيد من الشرح الوافي والتوضيح الكافي وبالأرقام واللغة التي يفهمها المصري البسيط.. وليس لوغاريتمات تعود عليها طوال السنوات الماضية.. ولا تنس ما ذكره الدكتور الجنزوري في بيان الحكومة عن عجز الموازنة ومعدلات البطالة وغيرها من مظاهر تدهور حالنا.. وإذا كانت الحالة وردية كما ترى.. فلماذا الانزعاج من مظاهرات واعتصامات المطالب الفئوية؟. أعطوا الناس حقوقهم وأصلحوا من حالهم! سيادة الوزير نأمل في بيان بالحقائق الكاملة. مصر.. الوطن الثاني وقف الرئيس اللبناني شارل الحلو في بداية أحد مؤتمراته الصحفية مرحباً بالحاضرين من الصحفيين والإعلاميين اللبنانيين قائلا: "أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان".. وذلك في اتهام صريح لهم وطعن في ولائهم لبلدهم لبنان.. وأن الولاء لديهم لوطنهم الأول الذي يمول أو يرشي أو يدافعون عن مصالحه وسياساته بقناعة وطنية منهم أن ذلك هو الأصوب للبنان.. الوطن الأول كان أشخاصا أو دولا.. أو أجهزة مخابرات.. وكل من يشارك في الصراع على أرض لبنان. كان اللقاء في أوائل عام 57 ولم يشعر أحد من المشاركين في المؤتمر الصحفي بالطعن في وطنيته.. ولم يتململ أحد أو يعترض ويستنكر ما قاله رئيسهم.. يبدو أن كلا منهم كان يشعر كما يقول المثل الشعبي المصري "على رأسه بطحة" لا يستطيع أن يخبئها.. أو يخشى أن يفتح فمه فيفاجئه الرئيس أو أحد زملائه بالحقيقة المرة على الملأ.. وبعد أن انفض المؤتمر الصحفي لم يفكر أحد من المشاركين أو غيرهم أن الرسالة واضحة.. لابد أن يتقي الله في بلده.. ولابد أن يصحح مساره.. حتى داهمتهم الحرب الأهلية في أوائل ابريل من نفس العام. ولم تضع هذه الحرب العبثية أوزارها إلا بعد أن أصبحت لبنان دماراً وخراباً وآلاف القتلى والجرحى. والتوصل لاتفاق الطائف عام 89.. حرب ضروس ما بين الميليشيات المسلحة للأحزاب والفصائل والطوائف.. كان الإعلام المدمر وقود اشتعالها واستمرار نيرانها.. كلما لاحت بادرة للهدوء.. انبري صاحب قلم أو ناشط سياسي أو صاحب صحيفة أو قناة بإشعالها من جديد.. باتهامات أو أكاذيب وتصريحات تذكي روح الفتنة والثأر تحت شعارات الوطنية ومصلحة لبنان.. بينما الحقيقة الخافية على المواطن اللبناني أن الولاء أولا لمن يعبث بالفكر أو يمول بالمال.. ولكنه عرف بعد فوات الأوان أن كلا "داير على حاله" باحثا عن دور أو مدافعا عمن يدفعون بالدولارات والدينارات والريالات. هذه الصورة المأساوية.. ننأي بالإعلام المصري عن لعب هذا الدور.. والمقارنة بالحالة اللبنانية، ليس المقصود منها الإعلام في مصر، رغم تطرف بعض القنوات التليفزيونية في الرأي السياسي والديني والتشدد في تأييد حزب أو تيار أو مرشح بعينه. ولكن الوضع في مصر اليوم يحتم علينا أن نكون جميعا على قلب رجل واحد لمواجهة بوادر الثالوث الشيطاني.. إعلام مجهول الهوية والهدف.. وساسة وناشطون يشوبهم الولاء والتمويل. وإذكاء الفتنة بين التيارات والأطياف في ظل قانون هش لا يلقى احتراما من مواطن أو مسئول وبوادر ميليشيات بعضها ظاهر وبعضها خفي.. هذا الثالوث يدعو للقلق وضياع الدولة.. رصد بعض الظواهر على مدى الأيام الماضية يؤكد بواعث هذا القلق وتدق جرس الإنذار بضرورة احترام القانون وما يستلزمه من إجراءات، ومحاكمات لكل من تسول له نفسه فرض أمر واقع أو فوضى أو فرض رأيه وموقفه على الآخرين دون اعتبار لمساءلة قانونية أو خوف على البلد تحت ادعاءات وطنية أو غيرة دينية.. آن الأوان أن تفرض الحكومة سيطرتها وتعيد للقانون هيبته.. وإلا فماذا يتبقى لنا في دولة بلا اقتصاد وقانون؟!.. لا شيء غير شريعة الغاب.. القوي يفرض سيطرته والضعيف لا حماية له أو حياة.. كفى استعراضا وفرض الرأي بالقوة والتهديد بالعنف ومليونيات حشد الجماهير.. ليست هذه لعبة سياسة.. ولا حماية ثورة. ولكنها تدمير لما تبقي من كيان دولة لمصالح شخصية وحزبية وسوء الظن بهم يدعونا للشك أنهم ينفذون مؤامرة خارجية بأيد مصرية. لماذا نصمت على أنصار مرشح يعترضون على القضاء ولجنة الانتخابات بعد استبعاد مرشحهم؟. لماذا نصمت على جماعة تدعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمارس أفعالها جهارا نهارا مثل قطاع الطرق في إيذاء الناس وتحت عين الشرطة؟. لماذا التصريحات من بعض المرشحين للرئاسة والمستبعدين التي تدعو لتأليب الناس على بعضهم وعلى سلطة القانون؟. لماذا لغة التهديد والوعيد لمن طلوا علينا مؤخرا بالجهاد إذا سارت الأمور على عكس هواهم؟. ومن نصبهم حكاماً رغم أنف الجميع؟. لماذا دعوات تكميم الأفواه ومطاردة الفنون والإبداع وتدمير تراث الحضارة المصرية والتزام المرأة البيت؟.. لماذا النذير بفرض قانونهم.. إذا لم يصدر قانون العزل السياسي سوف نشعلها ناراً؟.. حالة من التفكك والتسيب وإهانة القانون ورجاله.. والدولة ومسئوليها.. حالة من الترغيب والترهيب. لابد من فرض القانون والحفاظ على قوام الدولة وكيانها، دون صدام أو عنف.. وإلا أصبحت حربا أهلية.. ولا ننتظر حينذاك إلا إعلان الأحكام العرفية.. ويجب ألا ننسى دائما أن أكبر الحرائق تبدأ بمستصغر الشرر.. فأخمدوا الشرر من بدايته..!؟ نقلا عن جريدة أخبار اليوم