رغم تقدم تيار الإسلام السياسي في انتخابات مجلس الشعب، إلا أنه من المبكر الحكم النهائي على نسبة تشكيلة جميع أعضاء المجلس، إلا بعد انتهاء المرحلة الأخيرة، وحساب نسبة جميع الأحزاب. المصري الفصيح قادر على قراءة نتائج المرحلة الأولى جيدا، ومعالجتها في المراحل القادمة حسب الآمال المعقودة على البرلمان القادم في إرساء دولة مدنية حديثة يتمتع فيها الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات.. برلمان قادر على تبديد كل المخاوف لدى الشعب المصري وخاصة الأخوة الأقباط، وقادر على العبور بمصر من المأزق الاقتصادي الذي تمثل السياحة فيه نسبة 12٪ من الدخل القومي. وتخسر مصر شهريا في الوقت الراهن مليار دولار نتيجة تراجع الحركة السياحية. ليس بسبب ظروف الانفلات الأمني فقط، ولكن ترقبا لمخاوف كبيرة من صعود التيار الإسلامي وفرض سلوكيات معينة تهدد بتوقف السياحة نهائيا. ولكن الأهم اليوم ليس نتيجة الانتخابات وتقدم تيارأو حزب وإخفاق آخر. ولكنه اجتياز مصر لمفترق الطرق بانطلاق مسيرة الديمقراطية والاستقرار مع نجاح المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية، والتي سبقتها تخوفات عدة كادت أن تضيع الفرصة بإلغاء الانتخابات أوتأجيلها. وكان النجاح الأكبر فيها للشعب المصري العظيم الذي راهن عليه المجلس العسكري عندما قال المشير حسين طنطاوي: إن الانتخابات ستمر بنجاح ليس بفضل التأمين الجيد من القوات المسلحة والشرطة. ولكن بفضل الشعب المصري القادر على حفظ سير العملية الانتخابية بأمان وهدوء ووضع مصر على الطريق الصحيح.. هكذا أصبح هذا الطريق ممهدا لاجتياز المرحلة الانتقالية بأكملها حسب التوقيتات المحددة لها واكتمال مؤسسات الدولة بوضع الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية مع نهاية يونيو القادم. قصص بطولة الشعب التي جسدت حضارته واستدعت موروثه التاريخي من الرقي والعطاء.. الحديث عن تفاصيلها لا تفي بحق هذا الشعب. وقد تناولته الصحافة المصرية والعربية والدولية طوال الأسبوع الماضي بالمتابعة والتعقيب الذي يليق بشعب مصر وقدرته على اجتياز أول انتخابات معاصرة في مناخ ديمقراطي حقيقي، مارس فيه المواطن المصري حقه لأول مرة في اختيار ممثله في البرلمان دون فرضه عليه بالتزييف والتزوير لنقبل برضاء كامل حكم الصندوق. لقد أعطت الانتخابات زخما قويا يتيح استكمال عملية الإصلاح السياسي خلال المرحلة الانتقالية في هدوء واستقرار، ويخف من حدة الاحتجاجات والاعتصامات والدعوات للمظاهرات المليونية، مع كامل التقدير للباعث الوطني لأصحابها. وإذا كنا قد تلمسنا بالانتخابات بداية شارع النجاح السياسي. فإن أولويات العمل الوطني تستوجب من جميع القوى السياسية وائتلافات الشباب أن تضع على رأسها، الوضع الأمني والاقتصادي. وخاصة مع بدء عمل حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة الدكتور كمال الجنزوري. والتي بدا من مؤشرات تشكيلها الأمل في نجاح الوزارة الجديدة بالعبور بمصر من المأزق الراهن في هذين البعدين، ويجب ألا ننسى أنهما أحد الأهداف الرئيسية للثورة وأكثر المطالب الشعبية إلحاحا وحماية للوطن وحفاظا على كرامته وقوته.. عار على شعب الثورة أن يصل به الأمر لاستجداء المنح والقروض. أوأن يخاف أب على ابنائه في وضح النهار في مصر، بلد الأمان. بدون تهوين أو تهويل قدم اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع عرضا مدققا شاملا للوضع الاقتصادي والتحديات الراهنة وذلك من خلال اللقاء الذي عقده مع مجموعة من الشخصيات السياسية والإعلامية ورجال الأعمال، في إطار هموم الوطن التي توليها القوات المسلحة كل الاهتمام في كل المجالات. الأرقام المرعبة التي عرضها جرس إنذار لاستنهاض الهمة لكل المجتمع، قبل أن تكون تحذيرا من حافة الإفلاس أو ثورة الجياع. وما نتحدث عنه واقع لا يقبل الجدل بشأن إلصاق التهم للثورة. فثورة مصر قامت في الأساس لإصلاح هذا الحال وعلاج السياسات الاقتصادية الخاطئة التي كانت ستؤدي بمصر إن آجلا أو عاجلا إلى وضع أسوأ مما هو اليوم. ولكن حالة التردي الواضح للاقتصاد المصري، كان من الممكن تلافيها، لولا بعض الظواهر السلبية التي انتابت المجتمع لأسباب عديدة افتعلتها أياد لا تريد بمصر خيراً، وكان من أبرزها الانفلات الأمني وتراجع حركة السياحة وتوقف الاستثمارات الداخلية والعربية والأجنبية.. أصبح الجميع في حالة ترقب. ومهمتنا اليوم الخروج من هذه الحالة قبل فوات الآوان. حتى نضع أقدامنا على طريق تحقيق هدف الثورة بالعدالة الاجتماعية لكل المواطنين. وإحساس المواطن البسيط أن الثورة قامت من أجله وحققت له تقدما في حياته المادية والخدمية. لغة الأرقام مزعجة للمواطن وليس من المطلوب أن نزيد الأمر غموضا لديه، ولكن لابد من الاسترشاد بها، وتوضيح نتائجها على الواقع، لا ندعوه لحالة من اليأس أو الإحباط بقدر حقه في معرفة الوضع الاقتصادي الراهن وتحفيزه للخروج من هذا الوضع خوفا على بلده وانتصارا لثورته. والتأكيد على أن المشهد السياسي يجب ألا يحظى بكل الاهتمام وإغفال الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لحياة الناس. حسب الأرقام التي عرضها اللواء محمود نصر ان السحب من الاحتياطي النقدي للبنك المركزي خلال الشهور السبعة الأخيرة بلغ 19 مليار دولار منها 7 مليارات دولار كان رصيدا غير معلن و12 مليارا من رصيد 36 مليارا، ليصبح الاحتياطي حتى 30 يونية الماضي 24 مليار دولار، سيصل في يناير القادم إلى 15 مليار دولار، منها 5 مليارات مجمدة والباقي عشرة مليارات لا تكفي الدولة سوى شهرين فقط "!" انتبهوا كارثة بكل المقاييس. تعني ببساطة وبعيدا عن "الفذلكة" الاقتصادية ولغة اللوغاريتمات أن الدولة لن تستطيع سداد أقساط الديون الخارجية في وقت الاستحقاق أو مواجهة الظروف الطارئة لتعويض نقص الموارد، وأن نمد أيدينا للشحاتة يوما بيوم.. فهل تستحق مصر منا ذلك؟! هل هذا الذي سيحفظ كرامتنا؟! هل هذا ارفع رأسك فوق انت مصري؟! هل ننتظر من دول الخليج المن علينا وأن نريق ماء وجهنا حتى توافق، خذ هذا المبلغ منحة وهذا قرض بشروطنا؟! ولماذا الحديث عن الدول العربية؟! لأننا إذا أردنا حتى الاقتراض من البنك الدولي لن يرضى والمفاوضات شاقة حاليا لكي يسلفنا 3.2 مليار دولار. بسبب شروطه القاسية.. شروط سياسية واقتصادية.. ولماذا الشروط؟!! لأن مؤسسات الائتمان الدولية خفضت مستوى معدل مصر ثلاث درجات. ومعرض للانخفاض أكثر.. هذا التخفيض يعني انذاراً لأي مؤسسة دولية أو دولة تطلب مصر منها قروضا.. احذروا.. مصر قد لا تستطيع الوفاء بأقساط سداد الدين.. فإما ترفض هذه الجهة أن تقرضنا أو تضع شروطا قاسية، تخل بكرامتنا وسيادتنا.. ببساطة وضع الاقتصاد المصري تحت وصاية المجتمع الدولي. هذا أسوأ ما نمر به، ولن نعيد ونزيد في وضع العجز الكلي للميزانية الذي بلغ حدود الخطر 134 مليار جنيه، وإجمالي الدين العام تريليون و75 مليون جنيه والدين الخارجي 34.8 مليار دولار وارتفاع معدل البطالة إلى 20٪. ونسبة التضخم من 18 إلى 20٪. وخفض الإجمالي للموازنة العامة للدولة وما نتج عنه من أزمة سيولة وزيادة العجز في ميزان المدفوعات.. وبدون أن توجع دماغك في فهم هذه الأرقام.. أرجو أن نصدق الخبراء الذين يقولون إن هذا الوضع معناه أن المؤشرات الاقتصادية مؤلمة لمصر.. دولة وشعبا.. كل هذا.. ومازالت الدولة عاجزة عن وضع حد أو تصحيح مسار الدعم الذي بلغ 157 مليار جنيه.. يذهب منه فقط نسبة 6٪ للفقراء ومحدودي الدخل، الذي خصص الدعم من أجلهم.. ليست هذه دعوة لهبة شرسة غير مدروسة من الدولة ضد الدعم. ولكن ان نبحث في حلول غير تقليدية، كيف تدعم الدولة الفقراء الذين تزداد نسبتهم وحالتهم سوءاً. عيب أن تظل مصر من الدول الأكثر فقراً في القوائم العالمية.. دعم المواد البترولية فقط من بنزين وغيره يصل إلى 95 مليار جنيه، يستفيد الفقراء منها بخمسة مليارات فقط، بينما دعم سلع البطاقات التموينية لا يتعدى 9.3 مليار جنيه، ودعم القمح 2.5 مليار جنيه.. الوضع مقلوب ولابد من بحث عن حل.. الدولة تدعم لتر البنزين 95 بمبلغ أربعة جنيهات بينما بنزين 80 تدعمه بجنيهين.. بلغ الدين المحلي للسحب على المكشوف 85 مليار جنيه بزيادة 45 ملياراً عما كان عليه منذ 6 شهور. البحث عن حل لإنقاذ الوضع الراهن هو المهمة الرئيسية لحكومة الإنقاذ الوطني، إذا استطاعت الحكومة وقف حالة التدهور فقد نجحت، وإذا تمكنت من تجاوز المأزق وتحسين الوضع فسوف يسجل لها التاريخ هذه المهمة القومية. حدد الدكتور كمال الجنزوري أولويات الحكومة بمواجهة الانفلات الأمني ودوران عجلة الإنتاج. لابد أن يعلن فور أداء الحكومة اليمين عن خطته كاملة وببرامج محددة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ولابد أن تتضمن الخطة إجراءات لتشجيع الإنتاج والتصدير وعودة الاستثمارات الأجنبية، وكيف نوقف السحب من الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي وكيف نزيد موارد الدولة، لابد من تقليل الانفاق الحكومي.. حكومة إنقاذ تعني القرارات العاجلة والصائبة لا وقت ولا مجال للخطأ أو الأيادي المرتعشة.. الصلاحيات التي حصلت عليها الحكومة تجعل من كل وزير قادراً على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.. دون انتظار لقوانين وتشريعات، وما نحتاجه اليوم قرارات سريعة لضبط الأسعار ومكافحة الفقر وتطوير العشوائيات مصدر الإزعاج الدائم لحالة الانفلات الأمني والتشوه الاجتماعي، مع حق سكان هذه العشوائيات في حياة كريمة وتوفير الخدمات.. نحتاج خطة إنقاذ للصناعات الصغيرة. ودعم مهمة الصندوق الاجتماعي، وبناء الثقة مع المستثمرين المصريين والاستثمارات الأجنبية. الواقع يحتاج اليوم إلى حلول غير تقليدية حسبما أكدت ندوة قطاع الشئون المالية والإدارية بالقوات المسلحة. والتي تناولت اقتراحا ببحث تسويات ودية لقضايا رجال الأعمال المطروحة حاليا، وبما يضمن حقوق الدولة كاملة أو عدم التعرض للتحكيم الدولي. الوضع اليوم.. انتخابات برلمانية.. حكومة إنقاذ.. مأزق اقتصادي.. يحتاج إلى التقييم الموضوعي والصريح ودون التهويل أو التهوين..! نقلا عن جريدة أخبار اليوم