فقط إن قبلنا بالفصل بين الأخلاق والسياسة يكون صحيحا زعم أن معارك الاستفتاء والإنتخابات والدستور كانت كلها سياسية من الطراز الأول؟! وفقط إن سلمنا بأن تجاهل الأخلاق والضمير الإنساني يثمر سياسة ناجحة ويحقق مصلحة الأمة يمكن القبول بإدعاء أن ما رأيناه كان السياسة كما يجب أن تلعب بين الجماهير والناس؟! ويثير ما سبق قضية جوهرية تتعلق بالتفاعل المتبادل بين التحلي بالخلق والنجاح العملي. والأهم, أنه يطرح سؤالا جوهريا هو: هل يمكن أن تتحقق مصلحة الأمة بهدر المباديء, حتي وإن حقق من أهدر المبادئ مكاسب عملية؟ وفي تناول تلك القضية ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال, أوجز درس وعاقبة الصراع بين علي ومعاوية كما يخلص اليه الشيخ سيد قطب, الرمز الإخواني والسلفي والجهادي, في مؤلفه المبدع كتب وشخصيات, ثم درس إزدهار وسقوط الحضارة العربية الإسلامية كما أوجزه حسين مؤنس, المفكر المصري المسلم الكبير, في مؤلفه الخالد مصر ورسالتها; وأخيرا, درس صعود وسقوط الدولة القديمة في مصر الفرعونية كما أبرزه جيمس هنري بريستد, عالم المصريات الرائد, في مؤلفه العظيم فجر الضمير. وأسجل أولا, ما كتبه الشيخ سيد قطب يقول: إن عليا لم تكن تنقصه الخبرة بوسائل الغلبة.. ولكنه لم يكن يتدني لاستخدام الأسلحة القذرة جميعا.. إن معاوية وزميله عمرا( إبن العاص) لم يغلبا عليا لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس, وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب. ولكن لأنهما طليقان في إستخدام كل سلاح, وهو( علي) مقيد بأخلاقه في إختيار وسائل الصراع. وحين يركن معاوية وزميله( عمرو إبن العاص) إلي الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لا يملك علي أن يتدلي إلي هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل, وإنه لفشل أشرف من كل نجاح.... ويضيف الشيخ سيد قطب قائلا: فما كانت خديعة المصاحف ولا سواها خديعة خير. لأنها هزمت عليا ونصرت معاوية. فلقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت روح الإسلام, التي لم تتمكن بعد من النفوس.. ولو قد قدر لعلي أن ينتصر لكان انتصاره فوزا لروح الإسلام الحقيقية: الروح الخلقية العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال.. قد تكون رقعة الاسلام قد امتدت علي يدي معاوية ومن جاء بعده. ولكن روح الاسلام قد تقلصت, وهزمت, بل انطفأت.. ولسنا في حاجة يوما من الأيام أن ندعو الناس إلي خطة معاوية; فهي جزء من طبائع الناس عامة.. إنما نحن في حاجة لأن ندعوهم إلي خطة علي.. فروح ميكيافيللي التي سيطرت علي معاوية قبل ميكيافيللي بقرون, هي التي تسيطر علي أهل هذا الجيل, وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد اليها! لأنها روح النفعية!! وأخيرا, حتي لا يتهم من جانب أصحاب الغلو والتشدد, قبل أن يلحق بصفوف قيادة الإخوان وقبل أن يتحول ليصبح سلفيا جهاديا, لا ينسي أن يعلن: لست شيعيا لأقرر هذا الذي أقول. إنما أنظر الي المسألة من جانبها الروحي الخلقي, ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية, ولينتصر لعلي علي معاوية وعمرو. إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والإستقامة. ويخطيء من يعتقد أن النجاح العملي هو أقصي ما يطلبه الفرد وما تطلبه الإنسانية. فذلك نجاح قصير العمر ينكشف بعد قليل. وأسجل ثانيا, ما خلص اليه الدكتور حسين مؤنس بشأن الإنقلاب في نظام الحكم في دولة الخلافة, يقول: إن عليا بن أبي طالب حاول أن يعود بالأمور إلي سيرتها الراشدية السليمة, فبدأ بعزل الولاة الذين كثرت منهم الشكوي, وعصي بني أمية أمره, وبدأت الحرب الأهلية, وأصبح معاوية خليفة, بالغصب وقوة السلاح; لا بالحق ولا بالاختيار ولا حتي بالتراضي. وأصبحت القوة والعنف والبطش والظلم والعدوان قواعد الحكم بدلا من العدالة والشوري ومكارم الأخلاق. واعتمد خلفاء بني العباس علي الجندي المرتزق, وهو مغامر لا مكان للضمير في تصرفه, وانتهي إلي إذلال الخلفاء أنفسهم!! وكان حصاد هذا الإنقلاب كما يقرر الدكتور حسين مؤنس: أن الأمة أخرجت من ميدان السياسة, وحرمت حقها من المشاركة في تسيير شئونها, وأصبحت الأمة عدوا للسلطان, والسلطان عدوا للأمة. وأصبح حكم الخلفاء والسلاطين كرة يتبادلها محترفون للعبة السياسية الرديئة, وفقدت الأمة إحساسها بأن الحكم من حقها. وانتهي المطاف بأن استعان صاحب السلطان بالمملوك علي إذلال الأمة!! ثم تلاشت المؤسسات السياسية حين فطن المملوك إلي أن السلطان عالة عليه, فألغاه وحكم بنفسه, ولم يكترث أحد لإستبدال حاكم ظالم بغاصب ظالم.. وإذا كانت مصر قد حققت بعض التقدم في عصور حكام مصر الإسلامية فإن الفضل يرجع إلي مصر التي رفعتهم. وحين انتهي عصر الإبداع في تاريخ المسلمين الفكري, كانت العزلة وتقليد ما أبدعه الأسلاف, دون إضافة أو تجديد, حتي انتهت مصر إلي عقم وجدب معروفين; لتستيقظ من سباتها الوسيط في عالم كأنه من كوكب آخر!! وأسجل ثالثا, ما أعلنه وباستقامة, دون خوف من ابتزاز اليهود, الذين يزعمون أنهم مصدر الإرث الأخلاقي للغرب, فيقول إنه: لم يمض علي الإنسان إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير..! ويعد الكشف عن الأخلاق أسمي عمل تم علي يد الإنسان.. وكان ظهور الحضارة في مصر تطورا أشرق لأول مرة علي كرتنا الأرضية, مقدما أول برهان علي أن الإنسان قد أمكنه أن يخرج من الوحشية إلي المثل الاجتماعي الأعلي.. وكانت أول حضارة علي وجه الأرض; تحمل في ثناياها قيما أخلاقية ذات بال! حيث.. ظهرت أقدم فكرة عن منظومة أخلاقية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.. وكان يعبر عنها بكلمة واحدة جامعة, حوت كل معاني السمو والرقي, وهي ماعت, أي الحق والعدل والصدق!! أنه حين حل الظلم محل العدل, وسادت الفوضي بعد انهيار النظام الإداري الأخلاقي الذي ساد ألف عام.. وقع البعض في تشاؤم فظيع وتشكيك في كل شيء! لكن العويل لم يكن الجواب الوحيد للمصريين الأقدمين علي أول نكبة في تاريخهم مع سقوط الدولة القديمة.. وإنما بدأوا يدركون القيم الأخلاقية من جديد وبوضوح أكثر.. ورأوا وجوب التمسك بالمبادئ!! وأختم فأقول: إن التعلم من دروس التاريخ واجب علي الإخوان والسلفيين والجهاديين, تماما كما هو واجب علي غيرهم من القوي السياسية, التي تعتقد أن الغاية تبرر الوسيلة. وحين نسترجع الخسائر الجسيمة للإخفاق في إدارة فترة الانتقال بعد ثورة25 يناير, والمخاطر المنذرة للإخفاق في إدارة أزمة تشكيل وتحديد مهمة اللجنة التأسيسية لدستور مصر وفي مواجهة تحدي انتخاب أول رئيس للجمهورية الثانية; فان الإجابة تكون بالنفي دون تردد عن السؤال الذي طرحته: هل يمكن أن تتحقق مصلحة الأمة بهدر المباديء, حتي وإن حقق من أهدر المباديء مكاسب عملية؟. نقلا عن صحيفة الاهرام