ليس من عادة رؤساء الجمهورية والحكومة في فرنسا زيارة مسجد باريس الكبير خلال شهر رمضان، ومشاركة المسلمين الافطار، وجرت العادة ان يقوم وزير الداخلية بوصفه المسؤول عن شؤون العبادات بالتفاتة مجاملة لا اكثرإلا ان الرئيس نيكولا ساركوزي ورئيس وزرائه فرانسوا فيون خرقا هذه القاعدة وقاما بخطوة خرجت عن طابع تأدية الواجب الرسمي الى توجيه رسالة متعددة المعاني والاغراض. كان افطار مساء الاثنين في مسجد باريس التاريخي الواقع في الدائرة الخامسة، غير عادي، وبدا ذلك ملحوظا من الشوارع المحيطة بالمسجد وحتى اروقته الداخلية. لقد تغير ايقاع الحي فجأة قالت سيدة فرنسية من سكان الشارع المقابل متساءلة ماالذي يحدث لماذا كل هذه الاجراءات الامنية؟ وحين قلنا لها ان ساركوزي سوف يأتي لمشاركة المسلمين طعام الافطار قالت هذا امر جديد وأردفت انه امر جيد كذلك. وفي داخل المسجد اصطف رجال ونساء بألبسة عربية تقليدية وهم يحملون التمر واللبن وعلى الجانب الآخر فرقة من المنشدين يحمل افرادها الدفوف وبعض الآلات الموسيقية التقليدية. وحين وصل ساركوزي انطلقت زغاريد ترحب برئيس فرنسا الذي قرر ان يقوم ب”زيارة تاريخية” لمسجد باريس الكبير على حد تعبير عميد المسجد دليل ابو بكر. صدقت السيدة الفرنسية التي تسكن بجوار المسجد حين قالت ان الامر جديد وجيد. وهو جديد لأن الشأن الاسلامي كان يجري التعامل معه من الناحية الرسمية بصورة تتسم بالحذر والبروتوكولية وذلك لأسباب عدة : - الأول، هو ان فرنسا بلد علماني تقيم مسافة من الدين ويحسب أي زعيم سياسي موقفه بدقة من هذه القضية. - والثاني هو ان الصلة بالديانات محصورة بوزارة الداخلية لكي لاتفسر العملية من باب السياسة. - والسبب الثالث هو محاولات البعض تسييس الدين لذا تتجنب الدولة الاقتراب من التجمعات الاسلامية، وزج نفسها في طقوسها وبالتالي فإن خطوة ساركوزي تشكل خروجا على نمط التعاطي السابق مع الاسلام وتدشين مرحلة جديدة على الصعيد الرسمي ذات بعدين ديني وسياسي. على المستوى الديني توقف ساركوزي عند قضية تنظيم المسلمين لشؤونهم الخاصة على نحو تمثيلي، وتحدث عن الخطوة التي قام بها منذ عدة سنوات حين كان وزيرا للداخلية وهي استحداث “مجلس الديانة الاسلامية” برئاسة عميد مسجد باريس وذلك لتنظيم شؤون العبادة الاسلامية في فرنسا. وقد دعا الى تعزيز هذا التوجه بالنظر الى التطورات التي عرفها وضع الجاليات العربية والاسلامية في فرنسا في السنوات الأخيرة. أما بصدد البعد السياسي للخطوة فقد ركز ساركوزي على رسالة الاسلام الانسانية واستشهد بآيات من القرآن الكريم تحض على التآخي والتراحم. وقال اننا “نفهم الاسلام دين سلام، ومن يفهمه على غير هذا النحو لامكان له في فرنسا”. أما الجانب الجيد في خطوة ساركوزي هو انها اشعرت المسلمين انه ليس هناك تمييز من طرف الدولة تجاههم، مثلما كان الأمرفي السابق حيث كان الانطباع السائد هو تقصير الدولة في ما يتعلق بمشاركة ابناء الديانة الثانية في البلد مناسباتهم الدينية. إن حضور رئيس الدولة ورئيس وزرائه الى المسجد ومشاركة المسلمين طعام الافطار يفتح صفحة جديدة بين الطرفين. ويبدو ان التوجه الفرنسي الرسمي تجاه المسلمين والاسلام اثار شهية السفارة الامريكية في باريس ولذا قررت بدورها ان تمد خيوط الصلة مع ممثلي الاوساط الاسلامية وان تقيم احتفالا رمضانيا يوم الخميس وذلك في اول بادرة تحصل في فرنسا. وفي السياق، فإن الملاحظ في هذه السنة، هو الاهتمام الاعلامي بصورة كبيرة بالشأن الاسلامي، انطلاقا من رمضان ولم تخل صحيفة او اذاعة او محطة تلفزيونية من حديث عن شهر الصوم والاسلام والمسلمين في فرنسا. وذلك يعود لأسباب عدة: - الأول هو ان الاسلام لم يعد محصورا في بعض احياء المهاجرين العرب والمسلمين بل صار حالة فرنسية عامة، ف “الاسلام فرنسا ايضا” حسب تعبير ساركوزي، وبالتالي فهو ليس مكونا بعيدا عن هذا المجتمع، بل هو جزء منه. - والثاني هناك وعي لدى الاجيال الجديدة من العرب والمسلمين بأنها معنية بتقديم الاسلام في صورته المشرقة ومظاهره الحضارية، ولذا فإنه في الوقت الذي يتم فيه ابراز هذه الهوية، هناك تصميم على خلق لغة حوار مشتركة مع الآخر. - والسبب الثالث هو ان الطقوس الرمضانية غزت باريس بالكامل وصار بامكان المرء ان يجد مطعما في وسط الحي اللاتيني السياحي يعلن عن افطار رمضاني وسهرة رمضانية، كما انتشرت مقاهي النرجيلة التي تحيي ليلا سهرات رمضانية تمتد حتى السحور يتخللها تقديم وجبات عربية وشاي بالنعناع وموسيقا عربية وقد أخذت هذه الاجواء تستهوي قطاعا واسعا من الفرنسيين الذين صاروا يعيشون الجانب الاحتفالي من المسألة فوق ارضهم، بدلا من ان يسافروا الى العالم العربي. ولهذا يعتبر شهر رمضان مناسبة اعلامية مهمة لتغيير الصورة النمطية عن الاسلام والمسلمين.