عندما كنت في تونس الأسبوع المنصرم، كان الحدث الذي استأثر باهتمام الجميع هو تشكيل الحكومة الائتلافية التي تقودها حركة "النهضة" وتتولى أغلب حقائبها. ومع أن الحدث كان متوقعاً منذ إعلان نتائج انتخاب المجلس التأسيسي الذي فاز فيه الإسلاميون التونسيون وحلفاؤهم من "يسار الوسط"، إلا أن الشارع التونسي الذي لا يزال يعيش نشوة الثورة بعد مرور سنة على اندلاعها يترقب المشهد الجديد بمزيج من الحماس والتوجس من المستقبل. وكما قال لي أحد وزراء الحكومة الجديدة من الشخصيات المستقلة ليس من السهل على بلد حُكم طيلة ستين سنة بمنطق الزعامة الخارقة والسلطوية الانضباطية وعقلية الحزب المهيمن أن يتعود بسهولة على معادلة الائتلاف والشراكة السياسية وتداول أسماء حكامه في بورصة النقاش العمومي. يضاف إلى هذا المعطى الذي ذكره لي الصديق التونسي أن أغلب عناصر الحكومة التونسيةالجديدة غريبة على مراكز القرار والسلطة، وأبرز رموزها خرجت من سجون "بن علي" أو من المنافي الأوروبية، بدءاً من رئيس الحكومة "حمادي الجبالي" ووزير الداخلية "علي العريض" ووزير التعليم العالي "المنصف بن سالم" الذين قضوا قرابة عقدين كاملين في غياهب المعتقلات. ولم يتعود بعد التونسيون على أسلوب رئيسهم الجديد "المنصف المرزوقي" ببذلته البسيطة وعباءته البدوية (البرنوص) ولهجته الصريحة المباشرة. ومع أن رئيس الجمهورية الجديد أحرج حلفاءه في الحكم بتصريحاته الاستفزازية المتكررة (خصوصاً في الملفات الخارجية)،كما أن بعض قراراته الأولى طبعها الارتجال والتسرع (مثل قرار بيع القصور الرئاسية)، إلا أن الكثيرين راهنوا عليه ضمانة أخلاقية ورمزية للانتقال الديمقراطي على الرغم من محدودية سلطاته الفعلية. وكما قال لي أحد كبار المثقفين التونسيين:"قد تكون تونس بحاجة فعلاً إلى شخصية المرزوقي البسيطة إلى حد البلهوانية من أجل تطبيع مركز رئيس الجمهورية وإزالة الهالة الأسطورية التي كانت تلفه، فذلك من الشروط الأساسية لتثبيت الخيار الديمقراطي الحقيقي بعد عهود طويلة من الاستبداد والديكتاتورية". وإذا كان الناخبون التونسيون قد صوتوا في الاقتراع الأخير لرهان القطيعة الجذرية مع النسق السياسي القائم، فإن المعادلة الجديدة تطرح العديد من الإشكالات المحورية التي لها أثرها المكين على مستقبل التجربة الديمقراطية التونسية. وفي مقدمة هذه الإشكاليات ما كنا نبهنا عليه سابقاً من قطيعة ملموسة بين القوى المستفيدة من الحراك الديمقراطي والنخب السياسية والبيروقراطية والفكرية والاقتصادية، التي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة. ولا شك أن النظام السابق استمال جزءاً كبيراً من هذه النخب ووظفه في هياكل ودواليب جهاز الحكم، حتى ولو كان من الخطأ الحكم ميكانيكياً بتورطه في تجاوزات ذلك النظام. والتحدي العصي المطروح اليوم على الحكومة التونسيةالجديدة هو التوفيق بين مطلب التجديد الجذري بالقطيعة مع نمط تدبير السلطة الذي ثار الشعب التونسي عليه والحفاظ على تركة ومكاسب الدولة الحديثة التي بناها زعيم الاستقلال "الحبيب بورقيبة" على دعائم ثلاثة هي:النظام التربوي الرصين الانتقائي، وتحرير المرأة، وتهيئة البنية التحتية لجلب الاستثمار الخارجي في إطار اقتصاد ليبرالي مفتوح على أوروبا. وإذا كان الرئيس المخلوع "بن علي" قد حافظ على النسق البورقيبي من حيث التوجه والأولويات، إلا أن الفساد المستشري في كل مستويات الدولة قد قوض تدريجياً مكاسب الدولة الحديثة، وخلق ما سمته الباحثة الفرنسية "بياتريس هيبو" نمطاً من "الاقتصاد السياسي للطاعة" قائماً على آليات معقدة ومتشابكة من الرقابة والقمع والفرص الفردية وسياسات التضامن تكرس الإذعان الكامل للحكم وتصوغ واجهة تنموية براقة ومضللة للبلد (تحدث الرئيس الفرنسي السابق شيراك عن المعجزة التونسية). في مواجهة الظرفية الاقتصادية الصعبة الموروثة عن العهد السابق والمتفاقمة من جراء تراجع الحركة السياحية وتأثيرات الأزمة المالية العالمية، يبدو أن الأوراق المتاحة لحكام تونس الجدد محدودة. وكما ذكر لي "رفيق عبد السلام" وزير الخارجية الجديد الشاب اللامع الذي درس الفلسفة والعلوم السياسية، فإن تونس لا يمكن أن تعول على موارد مادية استثنائية، وليس لديها إلا ثروتها البشرية وكفاءاتها العالية التي على حركة "النهضة" أن تعرف كيف تكسب ثقتها وتستميلها في إنجاز مشروعها الطموح الذي يتمحور حول السياسات الاجتماعية العاجلة (التشغيل وتنمية المناطق المحرومة والمهمشة وتوفير الخدمات الضرورية لعموم السكان بأسعار معقولة). وغني عن البيان أن المناخ الاجتماعي شديد الاحتقان وقابل للانفجار في أي لحظة، كما أن علاقة الائتلاف الحكومي الجديد بالمركزية النقابية يشوبها التحفظ. ومن ثم فإن الخشية قائمة من تصادم الشرعية المؤسسية المستمدة من المنافسة الانتخابية وشرعية الحركة الاحتجاجية المستمدة من زخم الثورة، بحيث تصبح حركة النهضة وحلفاؤها في مواجهة مفتوحة مع الشارع المتلهف للتغيير السريع والحلول العاجلة. ويذهب بعض المقربين من الإسلاميين التونسيين إلى حد القول إن خصومهم من الليبراليين واليساريين "المهزومين" يريدون تحريك الشارع في وجوههم لإفشال التجربة في مهدها، مع ما يؤول إليه هذا المشهد من مخاطر جمة تتراوح بين الحرب الأهلية المفتوحة ودخول المؤسسة العسكرية على الخط على غرار السيناريو المصري. وإذا كان الإسلاميون التونسيون قد بذلوا جهداً واسعاً من أجل تبديد مخاوف المجتمع المدني والنخب الليبرالية من إجراءات "الأسلمة القسرية"، إلا أن أعمدة الصحف اليومية مليئة بمشاعر القلق والارتياب من الصعود الإسلامي وتأثيراته على النموذج التحديثي التونسي. سألت في هذا السياق وجهاً فلسفياً تونسياً مشهوراً كتب مؤخراً كتاباً طريفاً بالفرنسية حول الثورة التي أطاحت بحكم "بن علي" حول آفاق التجربة الراهنة، فأجابني أنه وإنْ كان لا يثق في حركة "النهضة"، ولا يعول كثيراً على مشروعها الاجتماعي، إلا أنه يدرك الحاجة الموضوعية إلى المرور بنمط من الحكم الانتقالي الذي يكرس القطيعة مع العهود السابقة. وقد استشهد بمقولة هيجل الشهيرة "إنْ العقل التاريخي يسير حتماً في الاتجاه الصحيح، ولكن دوماً من الجانب السيئ". نقلا عن صحيفة الاتحاد