لم يتخيل أحد عندما تنحى حسني مبارك، وفي نشوة الاحتفال بانتصار الثورة، أنه لن تمضي أشهر قليلة حتى تتراجع السيناريوهات الجيدة لمستقبل البلاد ويصبح علينا الاختيار بين سييء وأسوأ. ربما يعتبر بعضنا هذا تقدما مقارنة بما كانت عليه الحال قبل الثورة، حين لم يكن هناك اختيار أصلا. غير أنه لأمر مؤلم أن تنتهي ثورة الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية إلى وضع يصعب التطلع في ظله إلى الأفضل. ولكن هذا هو ما جنيناه على أنفسنا عندما نسينا في نشوة الانتصار أن إسقاط رأس النظام ليس أكثر من بداية صغيرة. بدا لنا وقتها أن خلع مبارك يعني نهاية نظامه وعصره وليس مجرد خطوة أولى في هذا الاتجاه. كان خروج مبارك من قصر العروبة بلا عودة حدثا جللا. ولذلك كانت الفرحة عارمة بلا حدود إلى حد جاءت معه السكرة وذهبت الفكرة. وعندما أفقنا، كان الوقت قد مضى وبات من الصعب المحافظة على جذوة الثورة. فقد انقسمت القوى التي وحدتها هذه الثورة وأعيد إنتاج استقطابات كان لها أكبر الأثر في إضعاف قدرة المعارضة على مواجهة النظام السابق على مدى عقود. تفرق من جمعتهم الثورة وذهب كل إلى حال سبيله لا يرى إلا نفسه. ولذلك فشلت محاولات استعادة روح الثورة عبر الدعوة إلى مليونيات لم يكن لمعظمها من اسمها نصيب. ولم يبق من السيناريوهات الجيدة، والحال هكذا، إلا الأمل في انتخابات برلمانية نزيهة ترتفع نسبة المشاركة فيها مثلما حدث في تونس أخيرا وأثار إلهاما جديدا. فإذا انتج هذا الإلهام أثرا مماثلا لذلك الذي ترتب على الثورة التونسية، سيكون الأمل في تعافي مصر كبيرا. فهذه الانتخابات هي الفرصة الأخيرة للخروج من عنق الزجاجة الذي أصبحنا محشورين فيه. فبدون برلمان قوي متنوع الاتجاهات يمثل مختلف أطياف المجتمع وشرائحه وتقوده أغلبية ائتلافية ولكنها متماسكة ولديها رؤية للمستقبل، ستدخل المرحلة الانتقالية في نفق مظلم قد يصعب الخروج منه. وهذا هو السيناريو الأفضل الآن في مواجهة سيناريوهات أخرى تتراوح بين ما هو سييء وما يعتبر أسوأ. فالسيناريو السييء هو أن تحدث موجة عنف تجتاح الكثير من الدوائر الانتخابية وتزيد الشعور العام بغياب الأمن فتدفع الكثير من الناخبين إلى الإحجام عن المشاركة التي لا يمكن توقع برلمان جيد أو حتى معقول بدون ارتفاعها إلى ما لا يقل عن 50 في المائة. فكان الإقبال الشديد على الانتخابات التونسية أحد أهم عوامل نجاحها. أما الأسوأ فهو أن يؤدي العنف حال حدوثه إلى إلغاء الانتخابات أو أن يساهم مع عوامل أخرى في توتير أجوائها وإرباك إجراءاتها وإضعاف الإقبال عليها فيأتي البرلمان ضعيفا عاجزا عن أداء دوره. ولا يخفي أن القوى المضادة لثورة 25 يناير تعتبر هذه الانتخابات معركتها الأخيرة. فقد نجحت حتى الآن في إثارة الكثير من الاضطراب، واستثمرت إلى أقصى مدى ارتباك خريطة المرحلة الانتقالية وما اقترن به من ضبابية سياسية. ولذلك ستسعى هذه القوى إلى تغذية العوامل المولدة للعنف الانتخابي في كل دائرة تتاح فيها فرصة لهذا العنف, سعيا إلى خلق أجواء يصعب في ظلها استمرار العملية الانتخابية، وخصوصا إذا حدث ذلك في مرحلتها الأولى. ولا نتيجة لإلغاء الانتخابات- في هذه الحال- إلا إطالة المرحلة الانتقالية إلى أجل غير مسمى، وفي ظروف لا تسمح بتنشيط الاقتصاد الذي قد يزداد ركوده في هذه الحالة. ولا ينافس هذا السيناريو من حيث كونه الأسوأ إلا سيناريو إجراء الانتخابات في أجواء صعبة على نحو يؤدي إلى تفتيت الأصوات بين تحالفات غير متماسكة وأحزاب هشة وأعداد هائلة من المستقلين. وفي هذه الحالة سيكون البرلمان مفتتا بلا أغلبية واضحة. وإذا كان حصول حزب واحد على الأغلبية ضارا بالتطور الديمقراطي في المرحلة الراهنة، فالأمر كذلك في حالة عدم نيل أي تحالف هذه الأغلبية أو العجز عن تشكيلها عبر تحالفات جديدة داخل المجلس. وعندئذ قد يعجز البرلمان عن انتخاب جمعية تأسيسية لوضع مشروع الدستور الجديد وينغمس في صراعات صغيرة لا نهائية على نحو يحمل خطر الضياع. غير أن هذا السيناريو ليس هو الأرجح، ففي الامكان أن يحصل أحد التحالفات على أغلبية بسيطة للغاية في الانتخابات، أو أن يتمكن من بلوغها عبر ائتلاف مع حزب أو حزبين آخرين أو حتى مع تحالف أو تكتل آخر. ولذلك يظل السيناريو الاكثر خطرا، والذي يصعب استبعاده، هو افتعال أحداث عنف مؤثرة إلى الحد الذي يدفع إلى إلغاء الانتخابات قبيل إجراء مرحلتها الأولى أو عدم إكمالها إذا حدث ذلك في هذه المرحلة التي ستجرى يوم 28 نوفمبر الحالي. وإذا كان هذا السيناريو متوقعا، يصبح الاستعداد له واجبا والسعي إلى مواجهته فريضة وطنية عبر تعاون مخلص بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والأحزاب والقوى التي تطمح إلى بناء مصر جديدة. ويمكن أن يحدث هذا التعاون عمليا عبر إيجاد صيغة خلاقة لحماية العملية الانتخابية عبر تنسيق بين قوات من الشرطة العسكرية وربما وحدات أخرى من الجيش من ناحية ولجان شعبية تضم متطوعين من أحزاب وقوى سياسية وائتلافات شباب ومواطنين محبين لوطنهم. وعبر هذا التعاون البناء يمكن أن نرى شعار الجيش والشعب إيد واحدة مجسدا على الأرض في لحظة فارقة وفاصلة في مسارنا الوطني. نقلا عن جريدة الأهرام