سعدت بمشاركتي هذه السنة في منتدى جريدة "الاتحاد" السنوي السادس حيث التقى كتاب "الاتحاد" الأجلاء بعروضهم في حفل فكري بهيج يختلف اختلافا بَيِّناً عن الملتقيات التي أشارك فيها في الدول الغربية لأن المتدخلين في جريدة "الاتحاد" انطلقوا من وقائع يعيشونها في بلدانهم ورسموا مشارف للمستقبل انطلاقاً من نظرة علمية ومستقبلية. تدخلت بورقة في موضوع "التغيير في عالمنا العربي بدون تثوير ولا تهييج" بمعنى قواعد تطبيق الميثاق التعاقدي في أدبيات الانتقال الديمقراطي، وهو موضوع شيق وفي غاية الأهمية لبلداننا العربية حاضراً ومستقبلًا، وهذه حسنة تحسب لجريدة "الاتحاد" التي سمحت بعرض مثل هذه النظريات المبنية على علمية متجذرة وعلى سبق تاريخي كان بإمكانه أن يقي العديد من الدول من الدخول في حقبة مجهولة المصير وبإمكان بعض الأوطان التقيد به حفظاً لمصالح البلاد والعباد. والميثاق التعاقدي يستلزم ثقة متبادلة ومخرجاً عقلانيّاً حتى تصبح المعادلة إيجابية بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة والمجال السياسي العام، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتعثر في الحين. بالنسبة للمخرج الإيجابي يجب على الأطراف أن يختاروا المعادلة التالية: النصر غير النهائي أو الجزئي (المكسب) -الخسارة النسبية (المجازفة)، بدل المعادلة الأخرى: النصر المطلق أو الفوز الكامل (المكسب) -الهزيمة المطلقة (المجازفة). وفي آخر هذا المطاف يؤدي الميثاق التعاقدي إلى استحكام هياكل الديمقراطية في حال المعادلة الإيجابية (التجربة المغربية) أو على العكس من ذلك إلى فشله في حال المعادلة السلبية (جزائر تسعينيات القرن الماضي) أو عدم وجودها بالأساس (تونس بن علي). فبالنسبة للجزائر وغداة استقلالها سنة 1962 باتت الشرعية الثورية أساس الحكم، وظل الجيش الضامن والساند الأساسي لها والممارس الفعلي للحكم خاصة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده هواري بومدين في يونيو 1965؛ وشكل النظام بتحالف الجيش وجبهة التحرير الوطنية (الحزب الواحد) نظاماً مغلقاً إلى حدود نهاية ثمانينيات القرن الماضي حيث جاء دستور 1989 لتكريس الفصل بين الحزب والدولة؛ ولكن مع الانتخابات التشريعية حصلت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على أغلبية الأصوات بمعنى أن المسلسل السياسي أدى إلى المعادلة السلبية بفوز نهائي للإسلاميين وهزيمة نهائية للجيش وهو ما كانت لا تقبله النخبة العسكرية التي تعتبر نفسها ضامنة للدولة واستمرارها وحامية للمؤسسات بكل أنواعها، فدخلت البلاد في فوضى سياسية عارمة تعدت العشر سنوات وراح ضحيتها ما يزيد عن مئة ألف جزائري قبل أن تأتي دساتير جديدة بما فيها دستور 1996 الذي أقر بتقنيات جديدة تمنع من تكرار المعادلة السلبية. أما بالنسبة لتونس، وفي عهدي بورقيبة وبن علي فقد كانت التجربة التونسية فاقدة لأي نوع من أنواع الميثاق السياسي التعاقدي بسبب قوة وهيمنة الحزب الحاكم، حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وكون رئيس الدولة هو المسؤول الأول عن الحزب، حيث جعلته يهيمن على الفضاء السياسي، ومن ثم كانت هيمنة الدولة على المجتمع السياسي برمته، ومأسسة الثنائية الشهيرة "الحزب- الدولة"، وكان لا يتصور إحداث مجال عمومي مستقل خارج المجال السياسي الرسمي. ويبقى المغرب الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلال المغرب نظام الحزب الواحد ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب يعبر عنه في احتفال البيعة الذي تقيمه الأمة/ الجماعة بكل مكوناتها إضافة إلى سلالته الشريفة؛ وهذان العاملان يعطيان لملك المغرب شرعية تاريخانية ومؤسساتية دينية تنزهه عن الصراعات والتحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/ الجماعة؛ ومثل هذه الشرعية كانت غائبة في تونسوالجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم (تونس) أو إلى الجيش (الجزائر) . صحيح أن التعدد السياسي منذ استقلال المغرب كان تحت المراقبة، ولكن محددات السياسة في المغرب سمحت للمعارضة بالعمل السياسي والجرأة السياسية حيث توالت المطالب بالإصلاحات الدستورية والسياسية عبر مذكرات رفعت إلى الملك في سنوات 1991 و1992 مثلاً، صاحبتها تعديلات دستورية لسنوات 1992 و1996 بمعنى أن المغرب استطاع أن يصل إلى المعادلة الإيجابية والنصر الجزئي للمعارضة (لأن مطالبها لم تلب بأكملها) والخسارة النسبية للنخبة السياسية في الحكم (لأنها تنازلت عن بعض من اختصاصاتها وإحداث مؤسسات دستورية جديدة وغير ذلك)؛ ونجحت هذه المعادلة أيضاً لأن المعارضة فهمت أصول اللعبة التي لا تقتضي تغيير النظام ولكن العمل داخل المجال السياسي. ومع الموجات الربيعية ووجود أرضية متجذرة للتفاهم وهو الميثاق التعاقدي، استطاعت التجربة المغربية أن تمر بسلام إلى دستورانية سميتها بالجيل الرابع، أدخلت المغرب إلى مدرسة الدول الديمقراطية المعروفة ب"الديمقراطية الميثاقية". وخلاصة القول إن الميثاق التعاقدي أو السياسي من أنجع الوسائل السلمية التي تسمح بإحداث انتقال ديمقراطي ناعم ومرن وبدون تثوير أو تهييج، وهذا يتطلب دهاءً سياسيّاً من الحاكم وأتباعه من النخبة السياسية في الحكم ومن المجتمع المدني والسياسي في المعارضة؛ وكان بإمكان هذا الميثاق التعاقدي أن يطبق مثلاً في اليمن وسوريا لو تمتع قادتهما بهذا الدهاء السياسي، وكان بإمكانه أن يطبق في تونس بن علي وعراق صدام ومصر مبارك، ولكن حب الرئاسة أعماهم فكان الهرم حاصلاً مستوليّاً، وفسدت الشرعية الصورية التي كان بناء الغلب عليها إلى أن كتب الله عليهم الانقراض. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية