عشية الأزمة المصرية- الإسرائيلية التي بدأت قبل أسبوعين على خلفية هجوم استهدف حافلات في مدينة إيلات أعقبته تداعيات دراماتيكية سريعة، كان القلق الذي ساد في تل أبيب عقب تنحي مبارك قد بدأ في الانحسار. وفي الأيام السابقة على نشوب هذه الأزمة، التي أسفرت عن مقتل ضابط وأربعة جنود مصريين بنيران إسرائيلية على الحدود، كانت الانتفاضة الاجتماعية المتعلقة بأوضاع السكن في إسرائيل هي أكثر ما شغل حكومتها. وتزامن ذلك مع نشر تقارير إعلامية وبحثية عدة مفادها أن العلاقات المصرية- الإسرائيلية لن تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل تنحي مبارك. غير أنه ما أن أُذيع نبأ مقتل الضابط والجنود المصريين على الحدود حتى تبين عدم دقة هذه التقديرات. فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي يلقى فيها جنود ومدنيون مصريون مصرعهم بنيران إسرائيلية على الحدود، بل المرة السادسة منذ عام 2004. وكان الأمر يمر في كل مرة باحتجاج مصري رسمي روتيني وإعلان إسرائيلي يفيد بأن إطلاق النار حدث بطريق الخطأ مع وعد في بعض الحالات بإجراء تحقيقات لم يهتم أحد بمتابعتها. ولذلك فعندما بدأت ردود الفعل الشعبية الغاضبة مصحوبة بموقف رسمي أقوى من ذي قبل، أدركت إسرائيل أن الرهان على أن العلاقات مع مصر لن تتغير لم يكن في محله. فقد تدفقت جموع نحو السفارة الإسرائيلية لدى مصر ثم إلى منزل السفير غضباً واحتجاجاً. ولم يكونوا جميعهم منتمين إلى جماعات سياسية أو دينية أو غيرها. وخرجت تظاهرات غير مسبوقة في عدد من محافظات مصر للمطالبة بأمر لا سابق له أيضاً، وهو "القصاص للشهداء" فضلاً عن طرد سفير إسرائيل وغلق سفارتها أو على الأقل إنزال علمها. وكان مشهد الشاب المصري الذي نجح في تسلق بناية طويلة تقع سفارة إسرائيل في قمتها وإنزال علمها ورفع علم مصر محله مشحوناً بالمعاني والدلالات، وليس فقط بالمشاعر والأحاسيس. كان هذا المشهد هو التعبير الرمزي الأكثر وضوحاً عن حقيقة أن العلاقات المصرية- الإسرائيلية لا يمكن أن تبقى على حالها. وكان مثيراً للانتباه احتفاء صحف غربية بهذا التطور، ولكن ليس من زاويته الخاصة بالعلاقات مع إسرائيل بل من جانبه المتعلق بأن الديمقراطية تخلق حقائق جديدة. وعبرت "نيويورك تايمز" عن حقيقة التطور الذي حدث في مصر، وهو أن شعبها أصبح طرفاً في معادلة العلاقات مع إسرائيل، بعد أن كان بعيداً عن حسابات الحكومات السابقة. وهذا هو ما دفع الحكومة المصرية الحالية إلى اعتبار الأسف الذي أبداه وزير الدفاع إيهود باراك غير كافٍ، واضطر الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز إلى تقديم ما يشبه الاعتذار. وتوازى ذلك مع كتابات وتعليقات في صحف إسرائيلية حرصت على توضح ضرورة استيعاب التغيير الذي حدث في مصر للمحافظة على العلاقات معها. غير أن هذا الاستيعاب يتطلب إدراك ضرورة تعديل البروتوكول الأمني أو الملحق الأول لمعاهدة السلام الموقعة عام 1979 حتى لا يتسبب الوضع العسكري غير المتكافئ على الحدود في استسهال إطلاق جنود إسرائيليين النار على الجانب المصري. فأيّاً كانت ملابسات الحادث الحدودي الأخير، فثمة ما يدل على أن الجنود الإسرائيليين يستسهلون إطلاق النار لمعرفتهم أنه لا توجد قوة ردع على الجانب الآخر بسبب القيود المفروضة على مصر في المعاهدة. وهذه قيود فادحة لا مثيل لها على الحدود بين أي بلدين في عالم اليوم. ولذلك فهي تعتبر أمراً غير طبيعي يتطلب مراجعة تأخرت كثيراً، على رغم أن المادة الرابعة في المعاهدة تجيز بناء على طلب أحد الطرفين إعادة النظر في ترتيبات الأمن المتفق عليها. ووفقاً لهذه الترتيبات، تم تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق، وحظر إدخال قوات مسلحة في المنطقة المصرية المسماة (ج) على الحدود مع إسرائيل، حيث يقتصر الوجود الأمني فيها على قوات شرطة و750 جنديّاً من حرس الحدود بأسلحة خفيفة، إلى جانب القوات متعددة الجنسيات. وكان طبيعيّاً أن يتأثر الوضع الأمني في هذه المنطقة، كغيرها في مختلف أنحاء مصر، نتيجة انهيار جهاز الشرطة واستمرار القصور في أدائه لأسباب في مقدمتها عزوف السلطة الانتقالية عن إعادة بناء وزارة الداخلية حتى الآن والاكتفاء بعمليات تجميل فيها. وبغض النظر عن كون هذا وضعاً مؤقتاً، فقد سلَّط ضوءاً كثيفاً على ضرورة تصحيح الوضع غير الطبيعي في المنطقة الحدودية المصرية (المنطقة ج) وخصوصاً عندما نقارنه بالوضع في (المنطقة د) على الجانب الإسرائيلي من الحدود. ففي (المنطقة د) توجد قوات مسلحة تضم أربع كتائب مشاة بكل منشآتها العسكرية وتحصيناتها الميدانية ومعظم أسلحتها بما في ذلك صواريخ أرض- جو على رغم حرمان مصر من الحق في إدخال طائرات أو حتى إنشاء أي مطارات عسكرية في سيناء كلها. ويعني ذلك أن قاعدة المعاملة بالمثل ليست مطبقة رسميّاً في المعاهدة، فضلاً عن الوضع الفعلي حيث توجد في (المنطقة د) في معظم الأحيان أسلحة غير مسموح بإدخالها إليها، بدليل أن الشهداء المصريين في الاعتداء الأخير قُتلوا في عملية جوية بدعوى مطاردة منفذي الهجمات التي حدثت في إيلات. كما أن قاعدة المعاملة بالمثل لا تتطلب أن تكون مساحة (المنطقة ج) على الجانب المصري أكثر من 50 ضعف (المنطقة د) على الجانب الآخر. فلا صلة حتمية لمساحة الدولة بحجم المناطق المنزوعة أو المقيدة التسلح، وخصوصاً حين يكون هناك انعدام تام للمساواة في مستوى المخاطر حيث توجد أعداد هائلة من الدبابات الإسرائيلية على بعد نحو ثلاثة كيلومترات فقط من الحدود، في حين أن الدبابات المصرية توجد على مسافة حوالي 150 كيلو متراً في (المنطقة أ) المسموح فيها بفرقة مشاة واحدة وثلاثة ألوية مشاه ميكانيكية ولواء مدرع وسبع كتائب مدفعية ميدانية ومثلها مضادة للطائرات. وهذا وضع صعب للغاية كان ممكناً الوصول في المفاوضات إلى أفضل منه لو أن السادات لم يتعجل وترك الفرصة لفريق التفاوض المصري للسعي إلى شروط أفضل. والمهم أن هناك أصواتاً إسرائيلية تطالب اليوم بقبول إعادة التفاوض على الترتيبات الأمنية. ولكنها لا تعبر حتى الآن عن الاتجاه الرئيسي في إسرائيل. ولذلك يمكن لتحرك مصري مدَّعم عربيّاً لدى أمريكا وغيرها من الدول الكبرى، أن يمثل ضغطاً على المتشددين في إسرائيل لقبول مراجعة المعاهدة. ولكي ينجح مثل هذا التحرك في التعامل مع العقل الغربي وإقناعه، لابد أن يقوم على رسالة سلمية واضحة مؤداها أن مصر تغيرت ولن يقبل شعبها اعتداءات تكررت ست مرات منذ 2004 في ظل الخلل الجوهري في التوازن على الحدود، وأن تعديل المعاهدة هو السبيل الوحيد للمحافظة عليها في الفترة القادمة. نقلا عن جريدة الاتحاد