صدر قبل أيام عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت الجزء الرابع من كتاب إريك هوبزباوم حول تاريخ العالم الحديث، وهو بعنوان "عصر التطرفات، القرن العشرون الوجيز 1914-1991". وقد كتب هوبزباوم مقدمةً للترجمة العربية قال فيها إنّ أهمَّ تطورات النصف الثاني من القرن العشرين: سقوط الاتحاد السوفييتي، وانفجار الثورة الإيرانية، واندفاع الولاياتالمتحدة للتدخل المباشر في العالم الإسلامي. بيد أنّ هوبزباوم يختم مقدمته هذه المكتوبة في مطلع عام 2010: "عندما وضعتُ هذا الكتاب خلَصْتُ في تحليل التاريخ والعالم الثالث، إلى أنّ منطقة الشرق الأوسط كانت وستظل مزعزعة من الوجهتين الاجتماعية والسياسية، وأن نهاية الحرب الباردة قد تركتْها قابلةً للانفجار أكثر من أيّ وقتٍ مضى". لقد شكلت الثورة الإيرانية ظاهرةً من خارج مجال التجاذُب بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي. فصحيحٌ أنّ الثورة أخرجت إيران من هيمنة الولاياتالمتحدة، إنما ذلك لم يحدث لصالح الاتحاد السوفييتي الذي كان يتدخل وقتها في أفغانستان، ثم لم يلبث أن سقط مُطُلْقاً سراح دولٍ ومجالاتٍ إسلامية. فالثورة الإيرانية بحسب هوبزباوم هي زلزال ضرب نظام الحرب الباردة بالمنطقة. أمّا سقوط الاتحاد السوفييتي فهو صَدْعٌ هائل حرّر مناطق شاسعةً من أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والقوقاز، كانت جامدةً عديمة الفعالية. لماذا اضطُرّ الأمريكيون للتدخُّل؟ يرجع ذلك إلى فرض القبضة والهيمنة من جديدٍ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وحدوث الاندفاعة الإيرانية. ذلك أنّ الأمر ما اقتصر على الفوضى التي أحدثتها إيران؛ بل تحرك صدام حسين من العراق باتجاه إيران فالكويت مقترباً إلى حدٍ خطر من منطقة الخليج النفطية الاستراتيجية. كما اندفع الفلسطينيون نحو انتفاضةٍ ثانيةٍ عرضت لوناً جديداً من ألوان الكفاح ما عهدتْه إسرائيل. وصعد بالتدريج بالتوازي مع الثورة الإيرانية إسلامٌ أُصوليٌّ سُنيٌّ انقسم إلى جهادي وسياسي، وعادى الغرب والأنظمة العربية على حدٍ سواء. وقد وقف هذان الإسلامان مع صدّام عندما أغارت عليه الولاياتالمتحدة لإخراجه من الكويت. وما أمكن للجهاديين التنسيق مع إيران رغم العداء المشترك للولايات المتحدة، لكنْ كانت هناك إشاراتٌ خطِرةٌ إلى تقارُبٍ بين إيران والإسلام السياسي. وهكذا فبالإضافة إلى المساحات الطليقة الجديدة المليئة بالاضطراب في آسيا الوسطى والقوقاز وعلى أطراف شبه القارة الهندية، هناك الآمالُ والأحلامُ التي أيقظتها الثورةُ الإيرانيةُ لدى الإسلاميين السنة، جهادييهم وسياسييهم. وعلى وقع "النظام العالمي الجديد" الذي بَشَّر به بوش الأب، دخل الأمريكيون إلى المنطقة لتحرير الكويت ثم لم يخرجوا منها إلى الآن. قال هوبزباوم في كتابه سالف الذكر، إنّ منطقة الشرق الأوسط أو المشرق العربي، سوف تبقى في اضطراب وتفجر. والاضطراب ناجمٌ عن أمرين: قيام أنظمة من حول إسرائيل، "تحفظ" الاستقرار، وتكافح الإسلام الجهادي، وتنضوي تحت مظلة الولاياتالمتحدة التي اقتربت بجيوشها لكي يكون الجميع آمنين. وبينما كان هوبزباوم يكتب جزءه الرابع هذا عن "زمن أو عصر التطرف"، ويتنبأُ فيه باستمرار الاضطراب، أصدر الباحث السياسي المصري المعروف نزيه الأيوبي كتابه: تضخيم الدولة العربية (1995). قال الأيوبي إنّ الدولة العربية وصلت إلى حالة جمودٍ هائل، فتعطلت كل وظائفها تقريباً، كما افتُقدت المسالك والمخارج لإمكانيات التغيير والبدائل. ولذا فقد توقع الأيوبي حصول فوضى عارمة، أو انفجار مسلَّح يقوم به إسلاميون متطرفون! إنّ أول ما يمكن قولُه بشأن توقُّعات هوبزباوم والأيوبي، أنّ الانفجار الذي توقّعاه، تأخر كثيراً، أي حوالي العقدين من الزمان. وأنه عندما حصل، حصل بالشكل الذي لم يتوقعْهُ أحدٌ: تحرك سلمي شاسع وواسع، قام ويقوم به شبانٌ يرفعون شعارات الحرية والكرامة والعدالة ومكافحة الفساد والديمقراطية. وفيما بين التوقُُّع والحدوث، أي على مدى العشرين عاماً الماضية، شهدنا غزواتٍ عسكرية وأمنية واستراتيجية من ثلاث جهات: الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإسرائيل وإيران. فالولاياتالمتحدة غزت أفغانستان والعراق ونشرت جيوشها وقواعدها من حول العالم العربي وعلى أراضيه. وإسرائيل شنّت حروباً على لبنان وغزة، وغاراتٍ على سوريا، واستعصت على كل محاولات ومشاريع السلام، واندفعت وتندفع في الاستيطان واستعمار ما بقي من الضفة الغربية والقدس. أما إيران فتدخلت بموافقة الولاياتالمتحدة أحياناً وبدون موافقتها أحياناً أخرى في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان والخليج، وقد اختلفت شعاراتُ التدخلات وأسبابها. فالأميركيون يقولون إنهم غزوا ما غزوه لمكافحة الإرهاب العالمي وأسلحة الدمار الشامل، والإسرائيليون يقولون إنهم شنوا الحروب دفاعاً عن الدولة العبرية من تهديدات "حزب الله" و"حماس". والإيرانيون يقولون إنهم إنما تدخلوا ويتدخلون عبر أنصارهم لمصارعة الولاياتالمتحدة، والجهات العربية التي تتعاون مع الاستعمار والاستكبار! كما أنها بتدخلاتها تنصر أنظمة وجهات المقاومة في سوريا ولبنان وفلسطين، والعراق الآن! وأياً تكن التعلُّلات، فقد كان وضعاً غير طبيعي وغير مقبول، القصد منه الإبقاء على الفراغ العربي وعلى الجمود العربي، لكي لا ينهض العرب كما نهضت سائر الشعوب بعد نهاية الحرب الباردة. وقد كان طبيعياً وسط وقائع الغزو والاستنزاف أن يشتد التوتر الداخلي، وأن تحدُثَ تلك الثُنائية المدمِّرة بين الاستبداديين والانتحاريين؛ إذ إنّ وجود أيٍّ منهما يستلزم وجودَ الآخر، مثلما يستلزم وجود بوش ومحافظيه الجدد، وجود ابن لادن وجهادييه وفسطاطيه! لقد كان حلاًّ عبقرياً ذاك الذي اختاره الجمهور العربي، بالخروج إلى الشارع مُسالماً ومُلْتاعاً وغاضباً وثائراً وغير عنيفٍ ولا حاقد. وبذلك فقد تهدَّد حكم الاستبداد بالزوال، وتصاعدت الآمال بأن يستعيد الناسُ إدارة شؤونهم بأنفُسِهِمْ. وفي المجمل، هناك إعادة صياغة للمنطقة من جانب شعوبها، وليس من جانب الجهات الدولية والإقليمية. فقد قامت هذه الثورات لضرب وإسقاط نظام الهيمنة الدولي والإقليمي، والذي دخل فيه أهل الجمهوريات الخالدة. وما كان الإسلاميون، الجهاديون والسياسيون، مؤهَّلين للتصدي للهيمنة والاستبداد بطرائق مجدية. لقد واجهوا الطائفية بالطائفية، والقتل بالقتل، والطغيان بالحاكمية، والعروبة بالإسلام... ولذا فقد تضاءلوا بمجرد نزول الجمهور للشارع. أما حركيات الإسلام السياسي الكثيرة اليوم، فهي ناجمةٌ عن الحيرة وفقد الهدف والشعور بأنّ الزمان تجاوزهم. على أنّ النتيجة الأُخرى لحركات التغيير العربي، تتمثل في قيام نظامٍ عربيٍّ جديد، قادر على صَون الانتماء العربي، والمصالح العربية الكبرى. بحيث ينتهي الفراغ الاستراتيجي المتنازَع عليه من جانب كلّ مَنْ هبَّ ودبّ. وبحيث تعيد إدارات دولنا الديمقراطية النظر في استراتيجيات مواجهة إسرائيل، واستراتيجيات التعامُل مع الجوار الإسلامي. فقد أسرف الأميركيون في التدخل بشؤوننا، وسارع الإيرانيون إلى مشاركتهم. لقد حدث التغيير دونما تفجيرٍ أو انفجار. وهذه من عجائب الجمهور. نقلا عن جريدة الاتحاد