الدولة تحترم مبدأ المواطنة اذا توافر شرطان: الأول: زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو قلة من الناس وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات. الثاني: اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. .. فالمواطنة واحترام أحكامها من المكونات الأصيلة للدولة الديمقراطية. وعندما نتحدث عن مجتمع يسوده مبدأ المواطنة، فاننا نتحدث عن مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بالتسامح تجاه التنوع الذي يزخر به هذا المجتمع. ومن أجل تفعيل المواطنة، فان علي القانون ان يتعامل مع كل اعضاء المجتمع علي قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو طبقتهم أو أعراقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الافراد والجماعات. وعلي القانون، في هذه الحالة، ان يحمي ويصون كرامة واستقلال الأفراد، وان يقدم لهم الضمانات لمنع أي تعديات علي الحقوق المدنية والسياسية ولتوفير الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق العدالة. كما ان علي قوانين تفعيل المواطنة. تمكين الافراد من المشاركة بفاعلية في اتخاذ القرارات التي تؤثر علي حياتهم، وكذلك القرارات السياسية في المجتمعات التي يعيشون فيها. وتكشف المراجع التاريخية ان المعتصم العباسي »812 - 772« هجرية - »338 - 248 ميلادية« استبعد المسلمين من الجيش وفرض عليهم الجزية كما هي مفروضة علي المسيحيين. وهذا يعني ان حالة »الذمية« كانت عامة علي الشعب المصري، فهو لا يشارك في الدفاع عن نفسه بل هو في » ذمة« الاتراك فحق عليه ان يدفع الجزية.. لا فرق بين قبطي ومسلم. وفي دراسات علمية قيمة للدكتور وليم سليمان قلادة.. يتأكد لدينا انه علي مدي قرون.. كان المصريون. جميعا - المسلمين وغير المسلمين- محرومين من الحقوق السياسية ومن ممارسة الحكم. وفي مثل هذا المجتمع الذي ينفصل فيه الحاكمون عن المحكومين، ليس من المتصور ان يشعر فريق من الشعب المصري المحكوم بأن له في مجال الحكم والسياسة امتيازا بسبب دينه علي فريق آخر من الشعب ذاته، أو ان له في هذا المجال حقوقا وسلطات أكثر مما للآخر. لقد عاني كل المصريين -من المسلمين والمسيحيين- من مساواة كاملة في الحرمان علي مدي قرون طويلة، مما جعل أي تفرقة فيما بينهم، علي أساس الدين، تنمحي من الذهن الشعبي. وهذا ما يفسر لنا حركة الأحداث في مصر منذ السنوات الأولي من القرن الثاني الهجري. فالوقائع الواردة في خطط المقريزي تشير الي انتفاضات استغرقت اكثر من مائة عام، منها انتفاضة القبط في عام 701 »ه« -أوائل القرن الثامن الميلادي- في شرق الدلتا، وفي عام 121 »ه« في الصعيد، وفي عام 231 »ه« في سمنود ورشيد، وفي سخا عام 051، وفي عام 651 ه، لكي تصبح الانتفاضة شاملة لكل المصريين أو من اسماهم المقريزي »عرب البلاد وقبطها«. وكانت أول ثورة »للعرب« في مصر عام 761 »ه« بسبب زيادة الخراج زيادة مجحفة زمن الخليفة العباسي المهدي »851 -961ه« وأعقبتها مواجهات عسكرية في اعوام 871 و681 و781 و191 و412 و512. وهكذا يصل المقريزي الي »الثورة الكبيرة في مصر«، التي شملت البلاد كلها. واستمرت اكثر من تسعة شهور ونصف الشهر من جمادي الأولي سنة 612 ه الي 81 من صفر سنة 712 حيث »انتفض أسفل الأرض بأسره« -عرب البلاد وقبطها- واخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدت الي ان قدم الخليفة المأمون الي مصر لإخماد الثورة. ويري الدكتور قلادة انه حدث في التاريخ ان اخترقت الجماعة المصرية حاجز السلطة واستخلصت صفة المواطنة من خلال مراحل استغرقت قرونا متعاقبة.. مضت فيها الحركة المصرية نحو هدفها. ولم يحدث في تاريخ مصر الحديث ان تأخر الاقرار بحق المواطنة الكاملة لفريق من المصريين عن الاقرار بها لفريق آخر.. بسبب اختلاف الدين. وعلي سبيل المثال.. عندما انحاز الخديو توفيق الي الانجليز ضد الشعب، قامت الجماعة الوطنية المصرية بتشكيل »جمعية عمومية« اصدرت قرارا بعزل الخديو ومساندة عرابي في دفاعه عن مصر ضد زحف جيش الاحتلال، وكان علي رأس الجمعية شيخ الأزهر وبطريرك الاقباط. ومنذ ذلك الوقت، سقط حق الخليفة الحاكم، وسقطت جميع الآثار المترتبة علي الغزو، بما في ذلك عهد الذمة واقتضاء الحرية من الشعب المصري، ونشأ -عوضا عن ذلك- وضع جديد ينطلق من ان المصريين جميعا -المسلمون والاقباط- هم وحدهم اصحاب الحق في حكم بلادهم. ولم يعد هناك فريق منهم في »ذمة« فريق آخر. وفي الممارسة المصرية، كان الدين عامل ضم وتوحيد، وليس سببا للفرقة والانقسام.كان الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو يقول: »قبط مصر.. أكرم السكان خارج الجزيرة العربية كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب«. وكان البكري الصديقي - من أكابر العلماء- في القرن الحادي عشر للهجرة يقول: »الاقباط من ذرية الأنبياء«. وقد أصدر كل من مفتي مصر الليث بن سعد »39 - 571ه« وقاضي مصر عبدالله بن لهيعة أوامرهما ببناء الكنائس. وقالا -من خلال رؤية فنية حضارية انسانية مصرية- ان بناء الكنائس »من عمارة الأرض«. وقد برهنت الحياة المصرية والحركة الوطنية ان نفي الآخر الديني يؤدي الي تهديد الكيان المصري في صميمه، فالذي يبدأ بنفي الآخر يصل بالضرورة الي تكفير الذات » المسلمين«. وعندما تحل عقلية الاستبعاد محل عقلية القبول، نجد ان دعاة النفي والتكفير يجهدون انفسهم في البحث عن الفروق ومواضع الشقاق بدلا من التشبث بعوامل اللقاء والتشارك في الحياة وفي البناء وفي الحركة. هذا ما أدركه المصريون منذ القرن التاسع عشر. وكل من يقرأ البرنامج الرسمي الأول للحزب الوطني المصري في أول يناير 2881 - كما صاغه الشيخ محمد عبده- يجد انه يعلن في المادة الخامسة من هذا البرنامج ما يلي: »الحزب الوطني حزب سياسي وليس دينيا، فانه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصاري وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم اليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم ان الجميع اخوان وان حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية«. وفي تقرير المؤتمر الاسلامي المصري الذي عقد في عام 2591 جاء ما يلي: »الخطأ الفاضح هو تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظاما سياسيا الي عنصرين دينيين اكثرية اسلامية وأقلية قبطية، لأن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسيم الوحدة السياسية الي اجزاء دينية، أي تقسيم الشيء الي اقسام تخالفه في الجوهر. فالأمة باعتبارها كائنا سياسيا أو نظاما سياسيا انما يتألف من عناصر سياسية، كذلك فان أي مذهب من المذاهب السياسية اعتنقه افراد أكثر عددا كان أكثرية، وكان الآخر أقلية. وعلي هذا يمكن فهم الأكثرية والأقليات في الأمة، وليس للدين دخل في ذلك.. وعلي ذلك يكون من السهل فهم انقسام الأمة، باعتبار المذاهب السياسية، الي اكثرية واقليات، وكلها - الأغلبية والأقلية- غير ثابتة بل متغيرة بتغير المذاهب السياسية وانتشارها.. قلة أو كثرة«. الحقوق التي نتحدث عنها هي التي تضمن لصاحبها المساهمة الايجابية في ممارسة السلطة العامة في بلاده من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم السياسية والقانونية والدستورية، ولا تكون صفة المواطنة إلا لمن يكون له -طبقا للدستور والقانون- هذا النوع من الحقوق، أي ان المواطن هو الذي يشارك في حكم بلاده. كلمة السر في المواطنة لدي من اسماه المفكر السيد ياسين.. فقيه نظرية المواطنة بامتياز وهو الدكتور وليم سليمان قلادة هي: الانتماء للأرض.. والمشاركة.. والمساواة. وضعف الشعور بالانتماء يرجع الي احساس شرائح من المواطنين بأنهم لا ينالون ما يستحقونه من حقوق المواطنة سواء علي الصعيد السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو الثقافي. نقلا عن صحيفة الاخبار