أكثر من سبب يكمن وراء عودة «الخيار السوري» إلى واجهة الديبلوماسية الإسرائيلية. إذ لا يكاد يمرّ يوم دون أن تطالعنا وسائل الإعلام الإسرائيلية بعناوين مرتبطة بهذا الخيار. وهي ليست المرة الأولى التي يحدث فيها انتقال للديبلوماسية الإسرائيلية من المركز الفلسطيني إلى «الخيار السوري». وقد حدث ذلك مرتين على الأقلّ من قبل، ليتضح بعد انقشاع غيوم الكلام أن تفاصيل الاتفاق السوري الإسرائيلي إنما استكملت فيما الأمر المتبقي هو شؤون البروتوكول. وهذا بعكس ما هو حاصل في الشأن الفلسطيني حيث البروتوكول والمراسم متفق عليها بينما التفاصيل إشكالية ومؤجلة. أو كما يقول موظفون إسرائيليون سابقون إن الاتفاق مع سورية ناجز بغير مفاوضات بينما الاتفاق مع الفلسطينيين غائب برغم المفاوضات. من الأسباب التي نفترضها لانبعاث الحياة مجددا في الخيار السوري إسرائيليا هو حقيقة الوهن الذي طرأ على المركز الفلسطيني في الصراع مع انقسام الجغرافيا والإرادة الفلسطينيتين ومع ذهاب إسرائيل في خيار إدارة المسالة أو الصراع عوضا عن حلها أو تسويتها. فالمسألة الفلسطينية نحفت وفقدت من ثقلها كثيرا لأسباب تاريخية ولأخرى موضوعية وداخلية. بإمكان إسرائيل، من وجهة نظر نخبها، أن تضبطها على هذا النحو أو ذاك أو أن تلتفّ على استحقاقاتها وأن تؤجّلها إلى أجل غير مسمى. في موازاة فقدان الكثافة الفلسطينية برز «العامل الشيعي» كما يسميه الإسرائيليون بصيغته المزدوجة، المباشرة وغير المباشرة. فحرب (يوليو) 2006 أفضت إلى بروز قوة تهدد العمق الإسرائيلي ممثلة بسلاح حزب الله وتمتعه بعمق استراتيجي سوري إيراني. وهو خط الدفاع الأول في المفهوم الإسرائيلي عن المشروع النووي الإيراني الذي تعتبره إسرائيل التهديد الاستراتيجي الأول عليها في المرحلة المقبلة. وكون سورية ضلعا في هذا العامل القابل للتحول إلى مصدر حقيقي للتهديد، فقد يكون من المفيد محاولة تحييدها من خلال إشراكها في عملية تفاوضية تُفضي إلى استعادتها الجولان وإلى ترتيبات مع الجانب الإسرائيلي يجعلها عاملا مهدئا على الجبهة الشمالية وداخل لبنان. وهذا ما لم يكفّ الإسرائيليون عن الحديث به وفيه منذ تموز 2006 . سبب آخر كامن في حقيقة أن هناك قبولا إسرائيليا لدفع ثمن اتفاق مع سورية قوامه إعادة الجولان المحتل وترسيم الحدود وفق خرائط ما قبل حزيران 1967. وهو ثمن أعلن العديد من رؤساء حكومات إسرائيلية من اليمين ومن الوسط قبوله. وإن هناك استعدادا في الرأي العام الإسرائيلي للقبول به. ويشار هنا إلى حقيقة أن المستوطنين الإسرائيليين في الجولان السوري، في قطاع واسع منهم، لم يأتوا من أيديولوجيا استيطانية بقدر ما ذهبوا إلى حيث هم من بحث عن تحدٍّ جديد أو جودة حياة في مستوطنات بعيدة عن مركز البلاد نقية الهواء مرفّهة بعيدة عن التلوث والضجيج. وفيما مضى أعلنت نسبة عالية منهم في استطلاعات للرأي استعدادها لدفع الثمن من ناحيتها لقاء سلام مع سورية بالانتقال إلى داخل إسرائيل. بمعنى ما، ستكون إعادة الجولان لأصحابه أسهل بكثير من فكرة إعادة الضفة الغربية لأصحابها. وهذا ما يقودنا إلى حقيقة كون الاستحقاق السوري بالنسبة لإسرائيل والإسرائيليين أقل وطأَة وكُلفة على الجبهة الداخلية من الاستحقاق أو جملة الاستحقاقات الفلسطينية. هذا في حين أن الخيار السوري قد يستتبعه تطورات أخرى تتعلّق بالوضع الجيو سياسي في الشرق الأوسط عموما، مثل جرّ سورية بعيدا عن المحور الإيراني ودمجها في المحور العربي المستعدّ للتفاهم والحوار مع الغرب. أو ضمّ سورية بقوة إلى الجبهة الدولية المناهضة للإرهاب السلفي. سبب ثالث لانتشار الحديث عن «الخيار السوري» في إسرائيل ذاك التواؤم البارز بين أوساط إسرائيلية وأخرى أميركية في السياسة والاقتصاد والقائلة بإمكان تحوّل سورية، هذا البلد النامي، الى فرصة اقتصادية ذهبية مع إرساء اتفاق إسرائيلي سوري يستتبعه دفق في العمليات الاقتصادية داخل سورية ومعها. وفي حديث مع أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين السابقين الذي طلب، مؤخرا، استشارة في الشأن السوري، اتضح لي مثلا أن شركات عالمية تُعنى بأعمال التشييد والإنشاءات والبنية التحتية عاكفة على إعداد خرائط وتصاميم لمشاريع سياحية دولية ولاستثمارات هائلة في النصف الجنوبي من الجولان المتاخم للحدود الدولية مع إسرائيل. وأوضح هذا المسؤول أن الأمر يتمّ بناءً على اتفاقيات غير رسمية لكن بعلم النظام السوري أبرمت بين الشركات العالمية وأصحاب بعضها من اليهود ذوي الجنسيات المزدوجة أو المتعددة، وبين جهات سورية في وطنها وخارجه. وأتى هذا الحديث في وقت ترشح فيه معلومات عن ارتباط وزير الأمن الإسرائيلي، إيهود براك، قبل عودته إلى السياسة في إسرائيل بشركات دولية وأوساط في الجاليات اليهودية في أميركا الشمالية تحلم باتفاق إسرائيلي سوري يتحوّل من ناحيتها إلى فرصة للاستثمار في دولة يعتبرونها ذات احتمالات هائلة كسورية. وليس غريبا أن يتحدث المقربون من باراك عن ضرورة اختبار احتمالات «الخيار السوري» بحجة أن المسار الفلسطيني متعثّر تماما بعد فشل الشريك الفلسطيني في الوفاء بالتزاماته منذ أوسلو وفق الادعاء الإسرائيلي طبعا وبعد نكوص الطرف الفلسطيني إلى العنف. بل يُمكننا أن نعتبر براك الذي فشل في فرض اتفاق «كامب ديفيد 2» على الفلسطينيين عندما كان رئيسا للحكومة القيادي الإسرائيلي المسؤول أكثر من غيره عن تعليق المسار التفاوضي مع الفلسطينيين لا سيما بعد تفجر الانتفاضة الثانية. ونرجّح بناء على القليل من التصريحات التي أطلقها في الشأن الفلسطيني لاسيما عشية انعقاد مؤتمر أنابوليس أن براك كأحد القياديين القلائل في إسرائيل الذين يفقهون شيئا ما في الاستراتيجيا والجيو سياسة وله فيهما رؤيا، يفضّل «الخيار السوري» على ذاك الفلسطيني. نقول هذا وفي الخلفية ارتباطاته الوثيقة مع أوساط أميركية وإسرائيلية أميركية تتحرك باتجاه سورية. أمكننا أن نضيف إلى ما ذكرنا أن النخب الإسرائيلية في سرّها معنية بإحراز تقدّم في المسار التفاوضي بشكل عام. وقد تكون مسالك الخيار السوري ميسّرة أكثر في هذه المرحلة. ويُمكن، كما يشير بعض الأكاديميين الإسرائيليين المختصين بالشؤون الاستراتيجية، أن يكون لذلك قِيم إضافية تتعدى الاتفاق الثنائي بين سورية وإسرائيل، مثل إضعاف المفاوض الفلسطيني بإبقائه وحيدا وأخيرا في الميدان، أو إضعاف حركة «حماس» بتحييد حليفها الإقليمي أو بتر الصلة معه، أو أن تضطلع سورية بدور إقليمي ينسجم مع مشاريع إسرائيل أميركا في المنطقة. بمعنى ما، يعوّل الإسرائيليون على «الخيار السوري» أن يعوّضهم عن عجزهم/عدم رغيتهم في إحراز تقدّم على المسار الفلسطيني الأساس ودفع الأثمان هناك. ويُظهرهم بصورة إيجابية ويجنّبهم احتمالات حرب جديدة محدودة أو شاملة هي آخر ما يرغبون فيه بعد بروز «الاقتصادي» في السياسات الإسرائيلية على حساب «الأمني».