رفض الخديو أن يقابل أحمد عرابى.. قال مين ده راخر ولد خرسيس عامل هوجة أقابله أنا خديو مصر؟ لم يبقَ غير الدهماء والرعاع الذين نقابلهم، خديو مصر لا يقابل سوى الباشاوات؟ من هنا فإن عددًا من مؤرخى مصر يؤكدون أن أحمد عرابى عندما ذهب إلى قصر عابدين لم يلتقِ الخديو وجهًا لوجه ولا دار بينهما الحوار الشهير بتاع «لن نُستعبَد أو نورَّث بعد اليوم»، وأن الخديو تنازل ورقَّ قلبه وأرسل مندوبًا عنه يقابل خرسيس عرابى «عشان نعرف نحن خديو بلد أبًا عن جد ماذا يقول ولد فى جيشنا».. المهم أن روايات أخرى تريد تعظيم أحمد عرابى، قرَّرت أن المشهد حصل فعلًا وما زلنا نرسمه فى كتب المدرسة، عرابى راكبًا حصانه وسيفه فى خصره، والخديو واقف على السلالم «طبعًا من المستحيل أن يتم السماح لعرابى بالجلوس على حصانه والخديو واقف أمامه، لأ وكمان عرابى يحمل سيفًا فى مواجهة الخديو.. لا ممكن أبدًا»، ودار الحوار المحفوظ بينهما. وأيًّا كانت الحقيقة، التقاه فعلًا كما تُصرّ كتب المدرسة أو لم يقابله أساسًا وتلقَّى منه فقط عريضة، فإن الخديو فعل الآتى:
1- نظر إلى المعارض أحمد عرابى باعتباره أقل من أن يواجه الخديو ويعارضه.
2- لم يسمح لنفسه بأن يقف أمامه على قدم المساواة وبندِّيَّة، فهذا تجرُّؤ وقح من مواطن من رعاياه.
3- لم يتصوّر أن للشعب مطالب لأنه ليس للشعب حقوق، بل هو الحاكم وحده الذى يعرف أكثر من الشعب ويفهم أكثر من المعارضين.
4- تعامل مع عرابى على أن عرابى رجل فتنة وقلاقل ومعارض حسود حقود يتحدَّى الخديو كأنما يتحدى الذات الإلهية.
5- رفض كل مطالب عرابى واعتبرها كلامًا فارغًا.
6- اعتبر الشعب كله عبيد إحساناته.
7- أكد أن أحدًا لا يفرض إرادته عليه وأنه مالك وملك هذا البلد وحاكم وحكم هذا الوطن.
8- قال تقريبًا لأحمد عرابى «روح العب بعيد يا ولد»..
المتأمل لهذا المشهد التاريخى يدرك أننا نعيشه هذه اللحظة تمامًا، فليس مسموحًا لأحد «فاكر نفسه عرابى أو فاكر نفسه راجل» أن يقف معارضًا ندًّا للحاكم ونظام الحكم.. هذه الروح المتغطرسة والمحتقرة للمعارضين والمحتكرة للحكم هى التى تسود وتطغى فى البلاد، بحيث يتقزَّم الجميع ويصبحون عبيدًا لإحسانات الرئيس وحكمه وحكومته.. «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وأنا خديو البلد وأعمل زى ما أنا عاوز.. لا استماع إلى مطالب الرأى العام بل لا اعتراف بها ولا بمَن يرفعها».. تعالٍ وترفُّع عن الأصوات المعارضة، وبطش وغشومة مع الشخصيات والجماعات التى تقدِّم نفسها باعتبارها مدافعة عن حق الناس والمجتمع، تجاهُل ثم جهل بمشاعر الناس ومطالبهم الحقيقية، انعزال عن الواقع فعُزلة عن الحقيقة، فلا يرى الحاكم إلا نفسه ورجاله كأنه لا يخرج من شرنقة الحكم كأنما يعيش فى قصر معقَّم من المعارضة والأخبار السيئة «التى هى الأخبار الحقيقية». عدم اطلاع مباشر على ما يكتبه ويقوله ويرفعه الناس، بل اعتماد على أفواه تنقل إلى أذنيه ما يريد وما تريد.
هذا حكم الخديو وأىُّ خديو حينما يكون إلهه هواه، واستراتيجيته مزاجه، ومواقفه انفعالاته، والمعارضون المختلفون معه وعليه مجرد فَسَقَة فَجَرة من وجهة نظره، والشعب عبئًا والمواطنون رعايا ناكرين للجميل والفضل ومنكرين للفضائل.. يبقى على طول الناس عبيد إحسانات الخديو!
هذا المقال نشرته فى عصر مبارك، وها أنا أُعيد نشره بحذافيره دون أن أغيِّر حرفًا ولا لفظًا، لأنه ينطبق على مرسى كما كان ينطبق على حسنى.