لم تكن وردة كباقى الورود فبينما اختارت مثيلاتها أن تعيش حياة ضجرة على الأرض سأمت هى ذلك الملل الذى أكل أوراقها واختارت أن تكون زهرة مائية . بتلاتها دائرية كاملة وكأنها رسمت ببرجل هندسى وقرنتها تبرز إلى الأعلى فى شموخ وكبرياء ، كبيرة مجوفة هكذا كانت أزهارها ، زهرة بيضاء كفتاة اسكندنافية ولت الدماء مدبرة من وجهها فى ليلة شتاء قارس فبدت أكثر بياضا، تتفتح عندما يقوم المسلمون إلى صلاة الفجر وتقفل عند الغسق .
اختارت تلك الزهرة ذات القلب الأصفر مياه النيل الضحلة مكانا لها ، وسط ذلك السواد القاتم برزت هى بجمالها الأخاذ .
انتقلت زهرة اللوتس من اليابسة إلى الماء ولكن لم يطب لها العيش هناك أيضا ، شعرت دوما بأن هناك شيئا مفقودا وبينما هى كذلك رأت أبا منجل على ضفاف النهر ، أطالت النظر إليه ليفتح جناحيه ويطير بعيدا عنها .
ظنت اللوتس أنها عرفت ما ينقصها ثم رددت "الحرية ! نعم أريد أن أكون حرة ! حتى عندما تركت اليابسة وذهبت إلى الماء لم يشف ذلك غليلى ، لماذا لا أطير مثل أبى منجل ؟ نعم سوف أطير، لست أقل منه شأنا !" فى هذه الأثناء رأت اللوتس طفلا فى التاسعة من عمره برونزى اللون وقد اصطحب أباه الفقير المعدم صاحب الفلوكة التى تمر من أمامها يوميا فى تلك الساعة التى يبدو لون النيل فيها كوجه ذلك الصبى .
نظرت إليه ثم دار بينها وبينه حوارا بدأته اللوتس قائلة " عبد الرحمن هل تستطيع سماعى؟! .
ارتعدت فرائص الغلام الذى بدا وكأنه لا يصدق أن اللوتس تستطيع الحديث ثم قال " يابا هو أنت ندهت عليا ؟" رد والده فى حنق " سيبنى فى حالى يا عبده والعب فى المياه لحد مانوصل البيت ، أنا تعبان من صباحية ربنا !" كررت اللوتس نداءها وقد قررت التحدث بالعامية المصرية رفقا به وبمن يقرأ المقال وقالت " عبده أنا اللى باكلمك بص فى المياه ، أنا اللوتس !" تصبب الصبى عرقا بدا وكأنه سيزيد من منسوب مياه النيل وصاح " الحق يابا ، الورد بيتكلم ! الحق يابا !" صاح أبوه فى غلظة حتى كاد ظهر الفلوكة أن يصير إلى أسفل من وقع صوته الأجش وقال " جرى ايه ياد انت ، اكتم لحد ما نوصل ، اكتم !!!" همست اللوتس مرة أخرى وقالت " مش هيصدقك يا عبد الرحمن ، أنا مش باتكلم إلا مع العيال الصغيرة اللى زيك !" امتعض عبد الرحمن وأخذت شفتيه هيئة موجة متعرجة ارتطمت بالفلوكة وقال " أنا مش عيل صغير ومفيش وردة بتتكلم ، أنتى مينفعش تتكلمى !" ردت اللوتس
" أنا باتكلم يا عبد الرحمن ، امال أنت بترد على مين ، صدقنى باتكلم !" اتسعت مقلتا عينيه وكأنهما بحاجة إلى وجه أكبر ثم همس بصوت خفى لا يكاد يفهم " بتتكلمى ؟! طب عايزة إيه منى؟" ردت اللوتس فى غبطة " عايزة أطير !" أطال عبد الرحمن السكوت ثم نظر إليها متهكما وقال " أنتى وردة ، الورد مينفعش يطير ، مش كفاية عايشة فى المياه؟ مش كفاية بتتكلمى؟! كمان عايزة تطيرى؟!
" أجابته بسرعة " عايزة أبقى حرة ، اشمعنا ابو منجل بيطير ، الموضوع سهل يا عبد الرحمن ، اقطفنى وارمينى والهوا هيطيرنى لفوق زى أبو منجل !" غضب عبد الرحمن لقولها وصاح "أنتى عايزانى أقتلك ؟ أنت كدة هتموتى صدقينى ، مينفعش تطيرى !" غض أبو عبد الرحمن الطرف عما يجرى ظنا منه أن طفله الصغير يهلوس ثم قالت اللوتس " لا أنا هاطير ، اعمل اللى بقولك عليه ، تعالى بكرة هنا فى نفس المكان والوقت ، أنت مش هتخسر حاجة لما تعمل اللى باقولك عليه !
" مر ذلك اليوم على عبد الرحمن كدهر ثقيل وفى اليوم التالى أبحر بالفلوكة فى الوقت الذى كانت فيه الشمس ايلة للغروب دون علم أبيه وذهب حتى رأها ، تلك الزهرة التى قلبت حياته رأسا على عقب فلما رأته صاحت " كنت عارفة أنك هتيجى يا عبد الرحمن !!" رد عبد الرحمن فى صوت امتزج فيه الخوف بتأنيب الضمير وقال " أنا خدت الفلوكة من ورا أبويا عشان أعملك اللى أنتى عايزاه ، أنتى متأكدة أنك هتعرفى تطيرى زى أبو منجل؟" لم تدعه يكمل باقى جملته وقالت فى عجلة " أيوة أيوة متأكدة ، يالا يا عبد الرحمن اقطفنى !" مد عبد الرحمن أنامله إلى المياه فى جزع وكأنما يمدها إلى النار ، نزع الزهرة من مكانها ثم أطاح بها فى الهواء ، ظل يراقبها وهى تحلق بضعة أمتار فانفرجت اساريره وفجأة هوت اللوتس بسرعة إلى المياه .
قفز عبد الرحمن من الفلوكة واسستغاث باكيا " الحقونا ، الحقونا ، أنا قولتلك ماينفعش تطيرى ، لو سمحتى ماتموتيش ، أنا اللى قتلتك ، قولتلك الورد مينفعش يطير ، قولتلك مينفعش تبقى حرة ، اصحى اصحى ماتموتيش !!" فى غضون ذلك كان أبو عبد الرحمن يركض على ضفة النهر ثم قفز صارخا " ولدى ولدى ! " .
سبح بسرعة تفوق فلوكته البالية حتى وصل إلى ابنه فاحتضنه وقال باكيا " ليه كدة يا ولدى ؟!" بكى عبد الرحمن ، لم يستطع والده التمييز بين ما يذرف من دموع وبين المياه التى أحاطت بهما . عندما التقطت الأقمار الصناعية لوكالة ناسا صورة لمصر بدت كتلك الزهرة ، بدت كاللوتس ، تناقلت وسائل الإعلام ذلك الخبر والان لا أملك سوى القول بأننا فى حقيقة الأمر مثلها تماما ، نحن لا نستطيع أن نكون أحرارا ، لا نستطيع الطيران ، أخطأت وأخطأ كل من قام بتلك الثورة فأى حرية تلك عندما يتطور الأمر لما يشبه حرب أهلية بين مؤيدى ومعارضى قرارات السيد مرسى كرم الله وجهه .
أى حرية عندما يهتف كل طرف بالموت والحرق والسلخ للطرف الأخر..أى حرية عندما تصبح هتافات الميادين "دول عايزين الحرق بجاز" أمام جامعة القاهرة و يصف الليبراليون الإسلاميين بالكلاب والسفلة فى الفضائيات ؟ لست حرا سيدى القارىء، أتظن أنك صاحب وجهة نظر ورؤية سياسية ثاقبة ؟ أقولها لك دون مجاملة ، جميع ما نعتقده أنا وأنت مبنى على شىء واحد " أتحب الأخوان أم تكرههم ؟ أتثق فى البرادعى أم تظن أنه عميل؟! ليس الأمر ما يريده الإخوان ولا ما يعتقده البرادعى وإنما هو التعصب تجاه الفكرة، لست لأنك مقتنع بها وإنما لأنك عزيزى القارىء اخترت أن تكون تابعا لأشخاص اخرين ربما تفوقهم ذكاءا، أنت لست حرا ولا تستطيع أن تكون حرا ولا أنا أيضا ، لا استثنى أحدا ...إحنا اسفين يا ريس .
إذا كنت غاضبا لأننا أودعناك سجنا فصدقنى نحن نعيش فى سجن أكبر يدعى مصر ..مصر التى تشبه اللوتس .