"لا يوجد ما هو «خطأ» وما هو «صواب» .. يوجد فقط رأى عام" (براد بيت .. من فيلم "إثنى عشر قرداً")
أتفق الكثير من علماء النفس والإجتماع على إن الصواب والخطأ هو موضوع للإتفاق عليه. أى أنه مادامت الأغلبية قد أتفقت على إن امراً ما هو «صحيح»، هكذا يتحول إلى قاعدة يقاس عليها.
على سبيل المثال كان هناك إتفاق بين مجتمعات الجاهلية على عبادة الأصنام لمجرد أن أكبر عدد من الناس قد أرتأوا ذلك، وأيضاً قبول وترحيب بعض المجتمعات الوثنية بفكرة تقديم أضحيات بشرية، مثل «عروس النيل» عند الفراعنة، وقرابين الشمس عند حضارتى «المايا» و«الإنكا».
هل تسائلتم يوماً لماذا تم تنسيق مفاتيح الألة الكاتبة وبعدها الكومبيوتر ومن ثم أجهزة المحمول الحديثة التى تعمل باللمس بدون ترتيب (بطريقة ملخبطة) حتى لدى من أخترعوها فى الأساس، أى فى اللغة الأصلية لمن أبتكرها؟
هل فكرتم لماذا لا تتجاور الحروف بترتيبها الصحيح مع أن كل اللغات الأجنبية التى تكتب بحروف لاتينية (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الأسبانية.. إلخ) تكتب أبجديتها بنفس الترتيب؟
يرجع أصل حكاية «لوحة المفاتيح» الملخبطة تلك إلى أول آلة كاتبة أبتكرها "كريستوفر شولتز" عام 1873 من أجل طباعة المستندات بخط دقيق وواضح. ونظراً لأن التقنية لم تكن متقدمة بشكل كبير وقتها، كانت الآلة تتعطل عندما يكتسب من يستعملها خبرة تجعله يكتب بسرعة كبيرة، عندها تتصلب الأزراروتتوقف الآلة عن العمل. لحل تلك المشكلة أبتكر "شولتز" نظاماً للمفاتيح يجبر من يكتب على الطابعة أن يبطئ من سرعته، فكانت فكرة لخبطة الأزرار ووضعها بشكل عشوائى غير منظم لتحجيم المتحمسين للكتابة بسرعة. تلقفت مصانع الآلات نظام المفاتيح الجديد وبدأت شركات أخرى تنتجها بشكل موسع حتى أصبح النموذج «العشوائى» هو الوحيد المتاح، حتى عندما تطورت الألات الكاتبة إلى كمبيوترات وأجهزة محمولة تعمل باللمس ظلت تحمل نفس الترتيب!
إذن. النظام العشوائى للمفاتيح أو الأزرار كان مصمماً فى الأساس لكى يكون الناس أكثر بطئاً لا أسرع. لكن مع إنتشاره وتعود الناس عليه أصبح هو الأساس الذى لا بديل عنه. وبرغم إن هذا يعد ترسيخاً للحال المايل، لكن من يجرؤ الآن على عمل لوحة مفاتيح تحمل الترتيب الصحيح والطبيعى للأزرار؟ من سيقدم على هذا الفعل سيكون مصيرة الإفلاس، لآن منتجة لن يباع خاصة إن معظم البشر لا يعرفون تلك المعلومة أصلاً.
عن نفسى عندما لاحظت هذا فى بدايات تعرفى على الكومبيوتر فسرت وجود الحروف على المفاتيح بهذا الشكل بأنه أفضل طرح ممكن لكى يستطيع الناس الطباعة بسرعة أكبر (وهو ما ينافى الحقيقة تماماً).
هذا بالظبط ما يحاول الريس مرسى جرنا إليه بمخالفته ما وعد به من إعادة تشكيل للجنة الدستور على أساس متوازن. أنه يعلم أنه دستور معيب وضعته لجنة مطعون على صحتها شكلها مجلس شعب منحل تم إنتخابه فى ظل سلطة عسكرية غير شرعية.
لذلك تناسى وعده وأعطى الفرصة والحرية لكتبة الدستور لكسب الوقت بالتسويف والبطئ المتعمد وإفتعال معارك جانبية حتى نفاجئ بموعد الإستفتاء، فيتم تمرير دستور معيب وكارثى ومعادى للحريات والحقوق، يكرس للطغيان والإستبداد وحكم الحزب الواحد والحاكم الإله، وسيساعد على فرضه بإستغلال حالة التعطش العام للإستقرار ليكسب -الدستور- بعد إقراره قوة الأمر الواقع، و بعد أن يتم إعادة هيكلة وبناء كل مؤسسات الدولة بما يناسب الوضع الخاطئ الذى تم الحشد والتكريس له كطوق النجاة الوحيد للخراب الذى نعيشه، وقتها لن ينفع أو يجدى إصلاحه أو تعديله فيبقى الوضع على ما هو عليه للأبد.
لتحقيق ذلك يشن التيار الدينى بقيادة حزب الرئيس حرباً شرسة على القوى المدنية يستخدم فيها كل الأسلحة الإعلامية الثقيلة بدءاً من التليفزيون وإنتهاء بمنابر المساجد. مع الإستخدام التعسفى للسلطة بإغلاق القنوات المعارضة كما حدث مع قناة دريم. دون أن يهمل التركيز على أن يستغل لصالحة إنتشار الفقر والجهل وحالة الإحباط العام والسيولة السياسية وتحلل المعارضة وإنصهار بعضها فى بوتقة الحكومة وضعف وقلة خبرة المعارضة الوطنية الشريفة، فى ظل عدم إستطاعة النخب المحترمة إستقطاب ما يكفى من الأصوات لتكوين أغلبية مضادة لتيار خطف مصر. إنه عمل إجرامى متكامل الأركان سندفع ثمنه وأولادنا فى المستقبل حيث لا ينفع الندم.
كل هذا التخبط والتأخير فى الإصلاح واللامبالاة بمعاناة الناس يتم توظيفه عن طريق ربطه بعدم وجود دستور حتى يسكت الناس ويبصمون على مواده الكارثية فى الإستفتاء القادم، مما سيؤدى لمكسب سياسي على المدى القصير، وكارثة مدمرة للوطن ككل على المدى الطويل عندما يكتشف الناس الخدعة. وسيكون تاريخ كتابة الدستور الكارثى بمثابة تاريخ كتابة نعى حكم الإخوان فى مصر. ووقتها سيتحمل أيضاً من يدعون أنهم ممثلوا القوى المدنية مسئوليتهم التاريخية عن إشتراكهم فى هذه المهزلة.
عندما يحدث هذا -وهو ليس ببعيد- لا أستبعد أن يقر الريس مرسى بالخطأ لأول مرة فى ولايته، ولكن بعد فوات الأوان، وأظن إننا سنسمع منه جملة «ابن على» الأثيرة "الآن فهمت عليكم" ولكن بالطريقة المصرية الأصيلة التى صرخ بها سعيد صالح فى مدرسة المشاغبين: "الريس مرسى إتهزم يا رجالة".