التاريخ يعيد نفسه حتى فى قصص الأنبياء، كأنها المواجهة الأبدية بين رسل العدل وملوك الطغيان. شوف الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو فى مناظرة مع الملك النمرود الطاغية الحاكم يومها، قال الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ». وذكروا أن نمرود هذا استمر فى ملكه أربعمئة سنة، وكان طاغيًا وباغيًا، وتجبر وتكبر، وآثر الحياة الدنيا. قال الخليل: «ربى الذى يحيى ويميت» فقال: «أنا أحيى وأميت».
هذا الإحساس الذى يملأ حاكمًا طاغيًا بأن أرواح الناس فى يده وتحت نعله، هذه هى المفسدة المطلقة لحاكم مطلق، قال له الخليل: «فَإِنَّ اللهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ»، فسكت النمرود ولم يبق له كلام يجيب الخليل به، بل انقطع وسكت. ولهذا قال: «فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وهنا المفارقة، حيث لم نرَ انتقامًا ولا رغبة فى التدمير من النمرود لإبراهيم بعد هذه المواجهة، خصوصًا أن نجاة الخليل إبراهيم من النار كانت ماثلة تمامًا فى ذهن النمرود الذى اكتفى بإجبار إبراهيم على الرحيل، لكن عندما ننتقل إلى موسى فى مواجهته مع فرعون، فنجد ذات المواجهة تقريبًا ونفس الطغيان مع فارق أن فرعون أشد جبروتًا وأعنف وأقسى، يقول الشاعر العربى: (وأنت الذى مِن فَضْل مَنٍّ ورحمةٍ * بعثت إلى موسى رسولا مناديًا * فقلت له فاذهب وهارون فادعُوَا * إلى الله فرعون الذى كان باغيًا * فقولا له هل أنت سويّت هذه * بلا وَتَد حتى استقلّت كما هيا * وقولا له أأنت رفعت هذه * بلا عمَد أرفق إذن بك بانيا * وقولا له أأنت سويت وسطها * منيرًا إذا ما جنّه الليل هاديًا * قولا له من يُخرج الشمس غدوة * فيصبح ما مست من الأرض ضاحيًا * وقولا له من يُنبت الحَبّ فى الثرى * فيصبح منه البَقْل يهتز رابيا * ويخرج منه حبه فى رؤوسه * ففى ذاك آياتٌ لمن كان واعيًا).
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاومة والمواجهة والمناظرة، وما أقامه موسى الكليم على فرعون الذى أصر على أنه الإله «فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى»، «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِى». إنه مذهول من أن شخصًا يُنكر عليه أنه إله وحاكم مطلق وأنه ربهم، مش معقول، مين ده، وكيف يجرؤ؟، مجنون ده بالتأكيد أو مختل، وبيقول إيه كمان، مين يا أخويا رب العالمين «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ».
خُد بالك أن القرآن كان مهتمًا جدا بإظهار المحيطين بفرعون وأدخلهم فى قفص الاتهام والإدانة، ما أحسن حد يكون فاكر إنه سينجو بالسكوت ويعمل فيها أنه عبد المأمور وغصب عنه، قَالَ فرعون «لِمَنْ حَوْلَهُ» من أمرائه ووزرائه على سبيل التهكم على موسى عليه السلام «أَلا تَسْتَمِعُونَ»؟
السلطة المطلقة تجعل أى حاكم أو رئيس أو أمير يتوهم أنه إله، ثم لا يطيق أن يسمع معارضة أو مناقشة، ويكاد لا يصدق أنه ليس إلهًا فعلا، هذا هو نمرود إبراهيم وفرعون موسى وحاكم ورئيس وملك كل بلد عربى الآن.. نكاد لا نستثنى أحدًا. مواجهة من نبى الله مع حاكم ظالم مستبد تنتهى بنفس نهاية مواجهة الخليل إبراهيم مع النمرود، لا شىء عند الطاغية سوى العناد واستعمال سلطانه وجاهه وسطوته «قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».
وكان ما كان من تتابع المواجهة مع السحرة، ثم إصرار فرعون على الطغيان ثم الفرار الموسوى بقومه ثم غرق فرعون، الحاصل إذن أن الأنبياء لم ينجحوا فى إقناع الطغاة.. أبدًا.