فاجأتني حين قالت : زمايلي بيتريقوا علَّي، زمايلي عرفوا إن تعليمي مختلف عنهم ، خلاص هيمسكوا الحكايه دي عليَّ ذله. كنت أعرف أنها لم تدخل المدرسة الابتدائية في السن المحددة لظروف كثيرة، يمكن اختصارها في الفقر والجهل والبعد الجغرافي، قدرها أنها كانت الأكبر في الأسرة، وأيضا البنت. هل يعرف أحد معني البنت الكبري في ريف مصر الجواني. وأن تكون أم هذه البنت طفلة - تقريباً. إذا لم تكونوا تعرفون، فيسعدني أن أقدم لكم «هناء». لم أفهم أبداً منها متي بدأت الدراسة. لكنها قصت عليَّ كيف بدأت. بل كيف ولدت، كانت ولادتها شديدة الصعوبة. أم تكاد أن تكون طفلة ضعيفة الجسد والعقل، لم تتمكن الداية من التصرف الصحيح، ضغطت عليها، سحبتها من ذراعها فتركت لها علامة تذكرها العمر كله ببؤس ولادتها، لم تنته مأساة الولادة إلا عندما فقدت الأم قدرتها علي الإنجاب مرة أخري. تزوج الأب من الثانية قبل أن تكمل هناء عامها الأول. رغم فقر الأب، كان لا يمكن أن يتصور نفسه أباً لابنة واحدة، هو يريد العزوة والأبناء الذكور. وما أسهلهم.. تزوج الأب مرتين بعد أم هناء، كبرت هناء لتجد نفسها وحيدة مهملة بلا أب تقريباً. كانت فكرة دخولها مدرسة الفصل الواحد بعد أن فاتتها سن التعليم، هي فكرة الأم الطفلة التي اعتبرت أن فرصتها الوحيدة في الحياة مرتبطة بفرصة طفلتها في التعليم. كانت أم هناء تعرف أن فرصة ابنتها في الزواج معدومة بسبب فقرها والإعاقة بذراعها، إذن فالتعليم هو الحل الوحيد. بكل طاقة الأم والابنة تعلمت هناء.. واجهت ظروفاً تصل قسوتها إلي حد الاستحالة. وانتصرت عليها وتعلمت. تخرجت في كلية لغات وترجمة في الجامعة الإقليمية القريبة من قريتها. تعثرت قليلا.. لكن في النهاية تخرجت. تعرفت عليها أستاذة في الكلية، أعجبت بقدرتها علي تحدي الصعاب، تبنتها. ساعدتها في الحصول علي عمل مترجمة بالقطعة، فهي تجيد الترجمة من الإنجليزية إلي العربية، لكنها لا تستطيع أن تنطق كلمه واحدة بالإنجليزية دون أن تثير ضحكات من يسمعها. أمس قررت أستاذتها أن تفخر بها فحكت في برنامج تليفزيوني بمناسبة يوم المرأة العالمي حكاية كفاحها كدليل علي قدرات المرأة غير المحدودة. حاولت أن أهدئ من روع هناء..فشلت. حكت لي تفاصيل صغيرة عن نظرة الزملاء لملابسها، لطريقتها في الكلام والجلوس والحركه ألجمتني. هيقولوا عليَّ (محو أمية) !! كانت تبكي.. حكيت لها عن الأستاذة الدكتورة إجلال خليفة التي كانت تدرس لنا مادة الصحافة في الكلية، وكيف أنها كانت تفخر بأنها كانت أمية حتي بلغت سن الثلاثين، وكيف كنا ننظر إليها باعتبارها معجزة مبهرة لا يمكن أن تتكرر. قالت لي هناء: الكلام ده كان سنة كام ؟ الكلام ده أيام ماكان الفقر مش عيب !!