المفهوم الذي يقدمه القرآن لما يسمي التطرف هو مفهوم الغلو، وهو الذي نهي عنه الشرع ودعا إلي الوسطية، ومن هنا تسمية الرؤية الإسلامية والأمة التي تحملها بأنها أمة وسط، وأن هذه الوسطية هي مناط ومنطلق الشهادة علي العالمين أي أمانة ومسئولية رد الغلو إلي التيار العام في الفهم والحركة إلي تلك المنطقة الوسط. يسري هذا علي تصورات الأفراد كما تسري حركة التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية. السؤال الذي يثور هو: من الذي يحدد الوسطية ومن الذي يصف الغلو بأنه كذلك، أي أن السؤال هو سؤال التعريف والتصنيف. لا ينفك هذا عن مفهوم القوة، فمن ناحية تقرر الأطر السلطوية الحاكمة بقوة وبعنف فرز الأطراف والأطياف وتحديد المواقع، فهذا دور أساسي للقوي المهيمنة كي تبدو هي في القلب وتدفع بالجميع إلي الأطراف، أطراف الساحة الفكرية وهوامش الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن من ناحية أخري تمثل القوة وسعي أطراف متنوعة لتحصيلها باتجاه التمكين أداة مهمة في إعادة تعريف المفاهيم وتوزيع الأوصاف وترتيب الخرائط. من المهم أيضاً أن نفهم أن التطرف والوسطية هي مواقف ومواقع ومواضع علي أرض وعلي مربعات متحركة، فالواقع المتغير يعيد ترتيب المواقع النسبية للأطراف المتنوعة فتتحرك من موقع لآخر طول الوقت، كما أن الخريطة برمتها تتحرك يمينًا ويسارًا لأنها مشهد من ضمن مشاهد أكبر تتضمنها حركة التاريخ ، فالمتغير الثقافي يقف علي رمال متحركة من عولمة الأفكار والأطروحات من أقصي اليمين لأقصي اليسار، والمتغير السياسي يقف علي رمال متحركة من تنازع القوة وإعادة ترتيب كل الأطراف لأوراقها وأولوياتها وحساباتها، والمتغير الاقتصادي يرتفع ويهبط مع أزمات الرأسمالية وصعودها بقوة الهيمنة والسيطرة علي المشهد الدولي عبر الحدود والقارات. والتطرف ليس فقط علاقة نسبية، وموضع علي خريطة أوسع، بل هو أحيانا يُصنع صناعة، فقد يتم الدفع بعنف لبعض الأفكار خارج الساحة أو إقصاء أطراف خارج اللعبة، فيخلق هذا من ناحية خطاب سياسي يتهمها بالتطرف ليبرر البطش ويعطي شرعية للقوة المهيمنة علي الساحة، وعلي الطرف الآخر يدفع هذا تلك القوة لأخذ ردود أفعال حادة لم تكن لتتبناها لولا ما تعرضت له من ظلم وتنكيل. سجون السلاطين والفراعنة هي البيئة الخصبة لأشد الأفكار تطرفاً، فهم الذين يصنعون أعداءهم بالقسوة والاستكبار وعنف السلطة المفرط والغباء السياسي المستحكم. ما الذي يمكن أن نتوقعه من فرد أو جماعة يتم إقصاؤهم عن التيار العام والمجال العام والخطاب العام ومساحات الوسطية قسرًا، ودفعهم خارج المشهد، وإدانتهم بما لم يفعلوا، في حين يتم ترك المجرمين يرتعون في مساحات الوسطية يفسدون ولا يصلحون؟ ما الذي تتوقعه من شخص أو تيار يتبني فكرًا يقوم علي المسئولية والمشاركة فتغدو جريمته هو أنه يفكر في غيره ولا يفكر في نفسه، ويدفع ثمن ذلك ملاحقة مستمرة تقطع سير وتدفق مسيرة حياته الطبيعية أو تطوره التاريخي، فإذا جاء رد الفعل مساويًا في القوة ومضاد الاتجاه كان هذا هو عين الدليل علي.. تطرفه! عندما كنت أستمع لأمهات وزوجات وبنات السجناء السياسيين من التيارات المختلفة في الفترة من 2005 - 2008 حين كان هناك اعتصامات متكررة لهن في نقابة المحامين مطالبين بالإفراج عمن قضوا دون تهم أو بتهم مختلقة أجمل سنوات العمر وراء القضبان، مع تنوع في درجات تعرضهم للقمع والتعذيب والظروف غير الآدمية في الزنازين (مع تنوع بين السجون المختلفة -جديدها وقديمها) أدركت أن صناعة التطرف مهارة تجيدها الأنظمة. لكن الشارع أيضاً يشهد غيابًا للعدالة والمساواة والمواطنة المتكافئة، وانتهاكاً لكرامة الناس بشكل منظم وغيابًا للأمن الاجتماعي والجنائي بسبب انصراف الثلاثين ألف ضابط أو يزيدون في جهاز الشرطة بالأمن السياسي بالدرجة الأولي، وهذا يدفع للتطرف في اتجاه الكفر بفكرة الوطن تارة، والكفر بالقيم الاجتماعية تارة أخري، والكفر بقيم الأخلاق في الساحة العامة، وتنامي نزعة البقاء في تفاصيل الفعل اليومي للفرد والجماعات، أنا.. وبعدي الطوفان. إن نظاماً محكماً للاستبداد والفساد يصادر علي التيار الوسطي ونموه الطبيعي في المجتمع، ويدفع دفعاً لانتشار الأفكار الراديكالية واستخدام العنف لأن الأطراف لا تري في السياسة والقانون مجالاً لإدارة الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية- الطبيعية في أي مجتمع. إن الدفاع عن المساحة الوسط وخلق بدائل هو معركتنا الحقيقية ، وفتح نوافذ ديمقراطية للتغيير والإصرار علي مواصلة النضالات المدنية والسياسية هو مخرجنا وهو الطريق لتجنب سقوط هذا المجتمع في دائرة عنف وتطرف يدفع السقف المفروض بالقوة علي مصر باتجاهها دفعًا، وهو ربما ما يريده النظام كي يبدو هو المعتدل والجميع في ساحة التطرف. المعركة الحقيقية اليوم في مصر هي معركة الاعتدال والشرعية في مواجهة نظام تطرف في فساده واستبداده بأدوات قانونية صنعها هو، وبالتستر بدستور قام هو بتعديله علي هواه وهو جالس في كرسي الحكم المطلق.. مطبقاً علي وطن يناضل من أجل مستقبل.. أفضل.