بدأ ظهور القنوات الدينية منذ أربعة عشر عاما، ومن إطلالتها الأولى جذبت هذه القنوات المشاهد العربى والمصرى بخروجها فى الشكل والمضمون عن الصورة التقليدية لرجال الدين الرسميين، ملبية بذلك رغبة كبيرة عند المشاهدين فى التغيير والتطوير، فقد زادت هذه القنوات الجديدة من الجرعة الدينية بطبيعة تخصصها، وهبطت بلغة الحوار الدينى إلى مستوى ما تحت العلم، وغيّرت من مظهرها مبتعدة عن الصور الباهتة التى كانت تذاع فى البرامج الدينية قبلها، لقد كانت معادلة التغيير واضحة من اليوم الأول وهو ما أكدته وأبرزته قناة «الرحمة» حين صدّرت تعريفها لنفسها على الموسوعة الحرة «ويكيبديا» فذكرت أن أول مزاياها الاهتمام بالسنة النبوية، وثانيتها «الاعتناء بمظهر الشاشة وتقديم المادة بصورة مشوّقة ومتميّزة للتسهيل على المُشاهد». وكانت قناة «اقرأ» أولى القنوات الدينية، فتأسست فى عام 1998، وقد أنشأها الملياردير السعودى صالح كامل، وقد سخر الكثيرون منها فى حينه ووصفوها بأنها كفارة الشيخ صالح نظرا لما كان يملكه من مجموعته الإعلامية من قنوات متخصصة فى الموسيقى والأفلام، لكن قناة «اقرأ» استطاعت أن تثبت وجودها وتخلق مساحتها عند المشاهدين، ثم تبعتها قناة «المجد» السعودية فى عام 2004، ثم قناة «الرسالة» المملوكة للملياردير السعودى الأمير الوليد بن طلال، ثم توالى ظهور العديد من القنوات الدينية الناطقة باللغتين العربية والإنجليزية، وكان الجامع بين كل هذه القنوات التى ظهرت أنها خليجية المنشأ والأسلوب إلى أن ظهرت قناة «الناس» فى 2007 وكان يملكها رجل الأعمال السعودى منصور بن كدسة بصبغتها الدينية السلفية ولغتها المصرية، وكانت القناة قد بدأت بثها فى يناير 2006 كقناة منوعات تذيع البرامج الترفيهية، والكليبات الغنائية، وبرامج تفسير الأحلام، وحفلات الزفاف، وطلبات التعرف بين الجنسين، وإعلانات لبعض المرشحين فى الانتخابات البرلمانية المصرية، وكان شعار القناة فى ذلك الوقت «قناة الناس.. لكل الناس».
الفضائيات السلفية ظهرت قبل 14 عاما لتهبط بالحوار الدينى إلى مستوى ما تحت العلم وبعد نحو عام من انطلاقها بدأت فى التحول إلى قناة ذات صبغة دينية سلفية، لتبث أناشيد بأصوات رجالية فقط، ومذيعات يرتدين الحجاب فى أثناء تقديم البرامج، كما ظهر على شاشتها دعاة ومقدمو برامج من التيار السلفى، أمثال الشيخ محمد حسان، والشيخ محمد حسين يعقوب، والشيخ محمود المصرى، وقد رفض الأزهر ظهور هؤلاء الدعاة وطالب بمنعهم من الحديث للناس فى الإعلام ووعظهم بلا إجازات علمية من المؤسسة الأزهرية، لكن استمر السلفيون المصريون فى الظهور بلا اكتراث للمؤسسة الأزهرية، وبعد ما لاقته «الناس» من نجاح توالت القنوات السلفية فى الظهور، فقد كان نجاح قناة «الناس» مبهرًا، يقول الدكتور محمود عبد الرازق الرضوانى أحد المشايخ السلفيين، وكان يقدم برامج بالقناة فى تسجيل له على ال«يويتوب» إن «قناة (الناس) جنت أرباحًا فى أول عام لا تقل عن 30 مليون جنيه، نتيجة للمكالمات والاستفسارات من المشاهدين، وكذلك الإعلانات التى تذاع فى برامج محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، وأبو إسحاق الحوينى»، ويضيف الرضوانى: «من هنا طمع المشايخ فى المكاسب وحوّلوا (الخليجية) إلى قناة إسلامية، ثم قناة خير».
«لقد صار الشيوخ السلفيون نجوم شاشة من الصف الأول فقد ذهل الناس برؤيتهم على الشاشة الفضية، بعد أن كانوا يظنون أن ضغوطًا أمنية شديدة تمارس ضدهم، وأن هؤلاء الشيوخ من المضطهدين والمعذبين فى الأرض، وأن ظهورهم درب من المستحيلات، لكنهم ظهروا، وكان ظهورهم قويًّا وكثيفًا وكأنهم فى مأمن من أى ضغوط أمنية أو رقابية»، يروى الرضوانى، و«بدأ المشايخ الكبار يتحكمون فى من يدخل قناة (الناس)، ومن لا يدخلها، ويهددون -بحكم ما يجلبونه من أرباح أصحاب القنوات- بأنهم لن يقدموا برامجهم إذا دخل هذا أو ذاك القناة لدرجة أنهم كانوا يجلسون مع مدير القناة ويمدحون بعضهم أمامه ويؤكدون ضرورة وجود برنامج خاص لكل منهم وبعدها يتصلون بمدير القناة يحذّرونه من ظهور هذا الشيخ الذى كانوا يمدحونه فى القناة ويهددون بالانسحاب، بل إنهم يمنعون تبرّع أهل الخير للقنوات الدينية التى لا يرضون عن أصحابها، ويوصون بعدم الإعلان بها، وتسبّبوا فى خسائر فادحة لقنوات دينية مثل (الحكمة)»، لقد صار الأمر صراعًا داخليًّا فى البيت السلفى على كعكة الإعلام، فمن يرضى عنه المشايخ له منها نصيب ومن لا فلا، وقد صاحب ذلك الظهور حملات تلميع إعلامى ضخمة وزّعت فيها على المشايخ السلفيين ألقاب فضفاضة لم يسمع بها أحد من قبل هذا الظهور الإعلامى، فصار الشيخ محمد حسان يُلقّب بالعالم الربانى مع أنه اعترف عشرات المرات أنه ليس بعالم، وأنه داعية وواعظ لا أكثر، والفرق شاسع عند أهل العلم بين العالم والواعظ، لكن الحملات الإعلامية اقتضت ذلك التلميع فكان، وصار يطلق على أبو إسحاق الحوينى لقب «أسد السنة» مع أن الرجل لا يحمل إجازة واحدة فى أى من كتب السنة النبوية كما هو مذكور فى سيرته العلمية، لقد اصطنعت القنوات السلفية هالة إعلامية ضخمة حول دعاة المذهب، وهو ما كان له أثره البالغ فى نفوس المستمعين من العامة والبسطاء.
أضف إلى ذلك نوعية الخطاب الدينى الذى يتبناه السلفيون منذ القدم ويرددونه على منابرهم أو عبر قنواتهم، فقد زادوا وغالوا فى ادعائهم القديم بامتلاك الحق والحقيقة وحدهم، وأنهم وحدهم الفرقة الناجية ومن سواهم فى النار، وأخذوا يروّجون لذلك بنصوص مبتورة ومجتزّئة فهمت -عن عمد- خطأ للسيطرة على الناس.
وقد لاءم هذا النوع من الجزمية الفكرية والقطع واليقين الكثيرين من أبناء شعبنا الذين باتوا شديدى المحافظة بفعل التجريف الثقافى والعقلى الذى تسبب فيه حكم مبارك، فحين يغيب التعليم الحقيقى والمعلومات الصحيحة يلجأ الإنسان فى تفسيره للحياة من حوله إلى رؤى الآباء والأجداد، وهذا التقليد هو ما يورث الجمود والتحفظ، لقد فشت الأمية العلمية والدينية بفعل التجريف المعرفى طوال أعوام مبارك الثلاثين، وهو ما ألجأ الكثيرين إلى العاطفية فى التفكير والتواكل الفكرى فى صوره المختلفة من الاستسلام للتفكير التآمرى، وعدم المبالاة وقبول الواقع مهما كان، والجزمية الفكرية وكراهية النقد وعدم تحمّله، وهذا كله وزيادة يوفره ويؤمنه الفكر السلفى بكل سهولة ويسر، فمن يطيعهم سيحصل جزما ويقينا على صك بالجنة، ومن يخالفهم فهو جاهل أو متآمر، وكل البلايا والرزايا التى نعيشها سببها ذنوبنا نحن لا استبداد السلطة أو تغوّلها، لقد كانوا بمثابة السندان لمطرقة السلطة، بثّوا فى نفوس المواطنين حالة من السكون، وبدلًا من دعم المجتمع ضد السلطة شاركوا السلطة فى نشر حالة من إدانة المجتمع لنفسه وتحقيره لذاته وقيمته.
لقد فشا الفكر السلفى سريعًا عبر قنواته، فقد كانت الأرض ممهدة، وكان المجتمع فى أمس الحاجة إلى من يزعم أنه يملك الإجابات عن كل الأسئلة ويستطيع أن يهب اليقين ولو وهمًا، لقد كانت مساحة كبيرة فارغة وملأها السلفيون، وكانت أكبر مناطق انتشارهم، هى نفسها المناطق الأكثر تحفظًا بحكم طبيعتها التاريخية، والأكثر تضررًا من إهمال نظام مبارك، حيث الأرياف شمالًا وجنوبًا والعشوائيات، فالسلطة الأبوية هناك طاغية والاستعداد لقبول التوجيه والسمع والطاعة موجود، وذلك يفسر لماذا كل دعاة وشيوخ الحركة السلفية من الأرياف والعشوائيات؟
لقد شجع سرعة انتشار الفكر السلفى فى قلب العروبة والإسلام مصر إلى توالى فتح القنوات السلفية المختلفة فوزّعت الأدوار، فاهتمت قناة «الناس» أو تخصصت فى الوعظ والرقائق وتعليم الناس الأخلاق على الطريقة السلفية، لمحاربة المنهج الأخلاقى الصوفى المسيطر فى مصر منذ ألف عام، وتخصصت قناة «الرحمة» فى شرح السنة النبوية من منظور الفكر السلفى، حيث ينتقى من النصوص ما يدعم فكرته، فوظيفة القناة ومزاياها حسب من عرفها على الموسوعة الحرة «التركيز على السنة النبوية من خلال السلف الصالح والتركيز على الثلاثة قرون الأولى لقول الرسول خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وشمولية المحتوى لكل جوانب علوم السنة النبوية، تقديم سنة النبى للناس من خلال إطار السنة وبطريقة سهلة»، لقد بدؤوا الانتقاء والاجتزاء من السطر الأول من أهداف القناة، وهو التركيز على فهم السلف، مع أن سلفنا الصالح أنفسهم لم يركز أحد منهم على فهمه للسنة، وقال إن هذا هو الصواب دون غيرى، لعلمهم أن الأفهام مختلفة والعقول متغايرة، فأين فهم السلف هذا الذى يدعون أنه الفهم الصحيح إذا كان السلف أنفسهم مختلفين فى فهم أغلب النصوص.
أما قناة «الحافظ» فقد خصصت نفسها لتحفيظ القرآن وتفسيره وفقًا لرؤاهم، وكان الضلع الرابع فى مربع السيطرة وإحكام السجن حول مصر قناة «الخليجية» ونشرها الفهم السلفى للعقيدة مصحوبا بوصف «الصحيحة»، وكأنه لا يوجد فهم آخر عقلانيًّا تتبناه المؤسسة العلمية الأعظم فى تاريخ المسلمين الأزهر الشريف، وللإثارة يقدمون العقيدة فى صورة تحديات ومناظرات وهمية لشيخ يخرج على الناس مناظرًا ومتحديًا كل المذاهب والفرق الإسلامية بفساد عقائدهم وامتلاكه وحده الحق، فى مناظرة هزلية بلا طرف آخر دائمًا، وحتى نؤمن بوجوب النقاب وتعتاده أعيننا ويقبله ذوقنا كانت قناة ماريا.
يقول الرضوانى، الشيخ السلفى الذى كان يقدم برنامجًا على قناة «الناس»، إنه حورب وبرنامجه من المشايخ وبالذات من محمد حسان حربًا ضروسًا للنجاح الذى حققه البرنامج ووصوله إلى أعلى نسبة مشاهدة فى البرامج الدينية.
وقد تحدث عن علم مشايخ السلفية الكبار قائلا: إن هناك فارقا كبيرا بين الشهرة والعلم، فالشهرة ليست تأصيلا علميا، ولا تعنى شهرة الشيخ أنه أصبح مرجعا للأمة الإسلامية، لكن سطوة الإعلام جعلت كلمة حسان ويعقوب عند الناس أهم من كلام الرسول، فتقول لأحدهم قال الله وقال الرسول فيقولون قال حسان ويعقوب.
وتحدث عن خطأ فادح وقع فيه الشيخان حسان ويعقوب، عند شرح مذاهب السالكين، قائلا إن «حسان لا يمثل السلفيين، إنما يمثل نفسه، وتسبب فى انتقادات كثيرة للسلفيين بسبب موقفه قبل الثورة، فالمفروض أن تكون عندنا ثوابت إسلامية لا تتغير لا قبل الثورة ولا بعدها، وكذلك مداهنته للمجلس العسكرى».