موجة الأمطار العاصفة التي ضربت مصر يوم الخميس 25 فبراير الماضي كشفت عن حجم الأكاذيب التي تروجها الحكومة المصرية عن إنجازاتها الهائلة في البنية الأساسية، فالأمطار أثبتت أن ادعاء من يحكمون مصر عن النفقات علي البنية الأساسية طوال الثلاثين عاما الماضية هي مجرد أكاذيب أو أن هذه النفقات قد ذهبت مع بنود الفساد الأخري التي أصبحت تمخر في عباب بنية المجتمع المصري إلا ما رحم ربك، تصادف أنني كنت أقود سيارتي علي الطريق الدائري الذي يحيط بالقاهرة بينما كانت الأمطار تهطل بغزارة وقضيت ما يزيد علي ساعة علي الطريق شاهدت خلالها حجم الفوضي العارمة والضبابية والسلوكيات الرديئة والأنانية المفرطة التي حولت الإنسان المصري إلي إنسان لا يعرف قيمة لشيء ولا يحترم شيئا ويمارس الفوضي بشتي أنواعها ويعرض الآخرين لخطر الموت دون اعتبار لشيء، أذكر أنني حينما تعلمت قيادة السيارات قبل خمسة وعشرين عاما أن سائقي الشاحنات كانوا يتعاملون برقي كامل مع سائقي السيارات الخاصة والصغيرة، وكان ينظر إليهم علي أنهم أصحاب النجدة والمروءة والشهامة في الطريق، فهم يوسعون الطريق للسيارات الصغيرة ويتوقفون لمساعدة ركابها إذا تعطلت بهم سياراتهم، كذلك كان ركاب السيارات الصغيرة يهرعون لمساعدة غيرهم علي الطريق وكانت هناك أدبيات في استئذان التخطي والتحية بين السائقين، وأذكر أنني لم أكن أتردد أبدا في أن أحمل راكبا علي الطريق إذا كان يقصد وجهتي مساعدة للناس لكنني أصبحت أخشي الآن القيام بهذا الشيء بسبب انتشار الجرائم والمجرمين، لكن كل شيء تغير الآن، فقد أصبحت الشاحنات تحمل الموت للسيارات الصغيرة وتهددها وأصبحت حوادثها مريعة ومرعبة، ولم يعد الناس يهرعون إلا ما رحم ربك - لمساعدة غيرهم، حيث إن أغلب الذي يتوقفون يتوقفون للفرجة، وانتشرت الأنانية والمصالح الشخصية بشكل مرعب، وأصبحت مصر من أعلي دول العالم في نسب الحوادث، كما أصبح الذين يموتون علي الطرقات كل عام أكثر من الذين فقدتهم مصر في حروبها مع إسرائيل، وكأن مهمة الذين يحكمون مصر هي أن يحولوا هذا الشعب الذي كان يتصف أهله ومازالوا بالمروءة والشجاعة والشهامة ونجدة الآخرين إلي وحوش يأكل بعضهم بعضًا، ورغم أنهم نجحوا في كثير من مراميهم فإن الخير ما زال كثيرا في الناس ،غير أن ما رأيته علي الطرق خلال الأمطار الغزيرة أعطاني مؤشرا خطرا ومرعبا عن السلوكيات والأخلاق التي أوصل إليها النظام الحاكم الإنسان المصري خلال الربع قرن الأخير، أعترف هنا بأنني لم أقد سيارتي في الأمطار الغزيرة في مصر منذ سنوات طويلة، ولم أكن أتخيل أن يقود الناس سياراتهم في الأمطار بهذا التهور وهذه الأنانية لاسيما سائقي الشاحنات، فقد رأيت هؤلاء ينشرون الموت ويهددون باقي السيارات علي الطريق دون رادع والأدهي من ذلك أن الحكومة لم يكن لديها أي استعدادات لمواجهة الأمطار أو التعامل معها رغم إعلان هيئة الأرصاد الجوية المصرية أن مصر سوف تتعرض لمدة 72 ساعة إلي موجة باردة وماطرة، غرقت الشوارع وكأن القاهرة ليس في شوارعها «بلاعات» للصرف الصحي، وربما يعود السبب إلي أن السيد الرئيس لم يعط تعليماته لعمال الصرف الصحي بأن ينظفوا البلاعات أو لم يعط تعليماته أصلا بأن المدن الجديدة مثل القاهرةالجديدة وغيرها يجب أن يتم بناء صرف صحي في شوارعها، لذلك أغرقت المياه كل شيء، وكنت أتمني من السيد الرئيس إن كان في القاهرة حيث يقضي معظم أيامه خارجها لاسيما في شرم الشيخ أن يخرج إلي الشوارع المحيطة ببيته في مصر الجديدة ليشاهد أكوام الزبالة وتجمعات الأمطار التي لم تعرف طريق بلاعات الصرف الصحي ليعطي تعليماته لرؤساء الأحياء لأن كل موظفي الحكومة أصابهم الشلل ولم يعودوا يقومون بشيء إلا بتعليمات السيد الرئيس، في اليوم التالي لهطول الأمطار وقفت أكثر من نصف ساعة لعبور نفق كلية الشرطة علي الطريق الدائري أو أكاديمية مبارك للأمن كما يطلق عليها، وكنت أتمني منهم طالما أنها تحمل اسم السيد الرئيس أن يهتموا بعمل صرف صحي للنفق الذي أمامها لكنني حينما أصبحت داخل النفق اكتشفت أن ارتفاع المياه أعلي من أجسام السيارات وهذا ما جعل سائقي السيارات يخشون من المرور في النفق وتكدسهم أمام المياه المتراكمة، لكن سائقي الشاحنات كانوا كعادتهم يخوضون في المياه وبسرعة ويغرقون السيارات الصغيرة دون أي اهتمام بأحد. المشكلة الأكبر كانت في السيول التي ضربت في الأسابيع الماضية مناطق الصعيد وسيناء وخلفت مآسي لا حصر لها لآلاف الأسر التي قضت أيامها في العراء تحت الأمطار، وطبعا لم يهتم بها أحد لأن السيد الرئيس لم يعط تعليماته بعد، وإذا كان ما حدث كان في شوارع القاهرة فما بالنا بما حدث في أحيائها القديمة وخارجها في المدن والقري البعيدة والفقيرة. إنها مصر الذي غرقت في «شبر ميه» كما يقول المصريون بعد ثلاثين عاما من أكاذيب «البنية الأساسية» التي اكتشف الجميع أنه لا وجود لها إلا في مخيلة الكذابين الذين يروجون لها، أرقي أحياء القاهرة غرقت في برك المياه وليتنا شاهدنا سيارات الصرف الصحي تقوم بمهماتها بدلا من البلاعات التي لا تعمل، بل إن الصحف المصرية نشرت صورا لعمال الأجهزة المحلية يزيلون المياه في قلب القاهرة علي طريقة العصور الوسطي «بالمقشات»، شوارع القاهرة التي كانت تغسل بالماء والصابون في عهد الملكية وكانت واحدة من أجمل وأنظف عواصم الدنيا تحولت بعد ما يقرب من ستين عاما علي يد الملوك الجدد إلي عاصمة الزبالة وبرك الأمطار، والعجيب أن معظم الشعب يتعامل مع هذه الأشياء كأمر واقع، ربما لأن الأجيال المتعاقبة أصبحت تري كل يوم جديد أسوأ من الذي سبقه ولم ير إلا القليل منهم ما كانت عليه مصر في العهود التي وصفوها بالفساد ثم جاءوا هم ليجعلوا مصر كلها تعيش في الفساد، فلم يعد الطعام والشراب والسلوك وحدها فاسداه وإنما كذلك الهواء الذي يتنفسه الناس حيث أصبحت القاهرة من أكثر عواصم العالم تلوثا، لقد أفسدوا حياة الناس أفسد الله عليهم حياتهم ومعيشتهم، لقد أصبت بالصدمة حينما زرت قبل أيام صديقا لي أحرص علي وده والتعلم من عصاميته ونجاحه في الحياة حينما قال لي: لقد أنهيت إجراءات هجرتي إلي كندا لأني لم أعد أحتمل الحياة في مصر، نظرت إليه وأنا صامت لا أتكلم لدقائق وغير مصدق، لم يكن هذا الصديق شابا في مقتبل عمره يبحث عن فرصة في الهجرة والعمل والحياة، ولكنه رجل أعمال عصامي ناجح تجاوز الستين من عمره وعاش حياته كلها في مصر ولم يعش خارجها إلا في زياراته لدول العالم؟ قلت له: ماذا تقول؟ قال: ما سمعته، لقد أصبح المناخ فاسدا إلي درجة أنني لم أعد قادرا علي التنفس فيه أو إنجاح مشروعاتي خلاله، إنهم يريدون أن يحولوني إلي فاسد مثلهم حتي أستمر، وأنا رجل عصامي قضيت حياتي بعيدا عن الغش والنفاق والخداع والكذب ولا أريد في نهاية عمري أن أدخل في هذه المنظومة، لم أعلق ولم أناقش صاحبي وإنما تركته والصدمة تعصرني، فلم يعد الفقر وحده هو الذي يدفع المصريين ليستدينوا أو يبيعوا ما يملكون حتي يهاجروا بشكل غير شرعي إلي أوروبا عبر قوارب الموت، ولكن حتي كبار السن والميسورين من الناس وصل بهم اليأس إلي حد التفكير بل الهجرة خارج مصر... حبيبتي بلادي ماذا فعلوا بك وإلي أين يأخذونك؟.