عندما حاصر الكفار بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم لقتله، طلب أحد المحاصرين من أبو جهل اقتحام المنزل على رسول الله، فرفض أبو جهل. وقال له: لا.. حتى لا تتحدث العرب أنا تَسوَّرنَا على بنات عمنا وهتكنا سترهن! إنها أخلاق أبو جهل. نعم أبو جهل كان عنده أخلاق، بل إنه كانت لديه أخلاق نفتقدها الآن، إنه رفض للوهلة الأولى أن يقتحم بيت النبى، وأن يهتك ستر بنات عمه، لأنه يعرف أن للبيت حُرمة، وأنه لا يجوز مهما بلغت العداوة أن يدفع النساء الثمن، هذا علاوة على أنه يدرك كارثة أن تتحدث العرب عن قلة حيائه، وتطاوله على بيوت فيها نساء. إن عداوة أبو جهل للرسول لم تجعله يقلب الحق باطلا، والباطل حقا، فهو يعرف الحق والباطل لكنه يُكابر. فعندما سأله ابن أخته «المِسْوَرُ بن مخرمة» قائلا: «يا خالى، هل كنتم تتّهِمُون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختى، والله! لقد كان محمد فينا وهو شابٌّ يُدْعَى الأمين، فما جَرَّبْنَا عليه كذبًا قطُّ. قال: يا خال، فما لكم لا تَتَّبِعُونه؟ قال: يا ابن أختى، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأَطْعموا وأَطعمْنَا، وسَقوْا وسَقيْنَا، وأجاروا وأجرنا، وكنا كَفرَسَىْ رهان، قالوا: مِنَّا نبى. فمتى نُدْرِكُ مثل هذه؟! والله لا نؤْمِن به أبدًا ولا نُصدقُه! هذه آفة أبو جهل أنه لا يريد أن يعترف بالحق، رغم أنه يعلمه جيدا، بل إنه كان لا يخفى هذه المعرفة فقد تحدث بها أكثر من مرة لأكثر من شخص ورواها أكثر من راوٍ، وربما كان ذلك واحدا من الأسباب التى جعلت «عِكرمة» ابن أبو جهل يدخل الإسلام. فمن المؤكد أنه سمع الحقيقة من والده أكثر من مرة، وأدرك أن العداوة سببها الكبر والعناد ليس أكثر، وأن الله حق وأن محمدا نبى الله. إن أبو جهل كان يمكن أن يسير على درب الفاروق عمر بن الخطاب، فكلاهما دعا له النبى أن يعز الله الإسلام بأحدهما، لكن الله اختار عمر، بينما قُتل أبو جهل على يد طفلين صغيرين حتى يكون عبرة لأولى الأبصار. إنها ضريبة سواد القلب، والكِبر، والعناد لذلك نقول فى المثل «العند وريث الكُفر»، وأبو جهل خير مثال على ذلك. فهو لم يكن سوى معاند للحق والحقيقة، لكن الأزمة ليست فى أبو جهل الذى مات لكن الأزمة الحقيقية فى كل أبو جهل يعيش بيننا وغروره يمنعه من الاعتراف بالحق، لأنه لا يريد أن يدفع الثمن. فالحقيقة لها ثمن لا يقدر عليه إلا من يملكون شجاعة الاعتراف بالحق، خصوصا إن لم يكن الحق معهم وكان مع عدوهم. فأبو جهل كان يدرك قدرة الله، لذلك كان يقول وهو يستعدُّ لغزوة بدر: «إنْ كُنَّا نُقاتِل محمدًا فما بنا منهم من ضعف، وإن كُنَّا نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحدٍ بالله من طاقة». مات أبو جهل لكن ما زال لدينا من هم أكثر جهلا من أبو جهل نفسه!