بعد أن هدأت عاصفة التعليقات والتحليلات عن انتخابات جماعة الإخوان المسلمين، يمكن القول بأن تلك الانتخابات كانت كاشفة لطبيعة توجهات جماعة الإخوان، رغم أن الكثير من التحليلات رسمت صورة مسبقة عن نتائجها، تعرقل فهم توجهات الجماعة الأساسية. كما أن الانتخابات أوضحت ضمنا، طبيعة الاتجاهات المختلفة داخل الجماعة، رغم أن بعض التحليلات وضعت الجماعة في قوالب جاهزة، تحول دون فهم حقيقة الاتجاهات بداخلها. والمتابع لخطاب الجماعة وقياداتها، يلمح العديد من الثوابت المنهجية في موقف الجماعة، والتي لا تميز اتجاها عن آخر. ومن تلك الثوابت، المشاركة السياسية والمشاركة في المجال العام. فالمشاركة في الانتخابات والنشاط السياسي، ليست موقفا يميز اتجاها عن آخر داخل الجماعة، بل هو موقف متفق عليه داخل الجماعة. فلا يوجد اتجاه معتبر داخل الجماعة يميل إلي عزل الجماعة عن المجتمع، أو عن المجال السياسي. فجماعة الإخوان انتشرت في المجتمع، ووصلت للمرحلة التي تمكنها من نشر رؤيتها علي نطاق واسع داخل المجتمع، لذا فإن أي اتجاه يميل إلي عزل الجماعة، يلحق ضررا بها، ويقلص مما حققته في السنوات الماضية. وتأكد من ذلك، أن قبول الجماعة بالمشاركة في العملية الديمقراطية، هو ثابت آخر في منهجها. لأن العملية الديمقراطية تتيح الاحتكام للمجتمع في اختيار من يمثله ومن يحكمه، مما يحقق مبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات. وهذا المبدأ مهم للجماعة ومشروعها، لأن الجماعة تريد تحقيق الإصلاح السياسي من خلال التوافق المجتمعي، كما أنها تريد تحقيق رؤيتها السياسية من خلال دعم الأغلبية لها، وكل ذلك لا يتحقق إلا من خلال العملية الديمقراطية، والتي تؤدي إلي حكم الأغلبية، وتتيح للمجتمع الحرية السياسية اللازمة ليعبر عن اختياراته السياسية. لذا كان التصور المطروح إعلاميا بوجود اتجاه يدعو للعزلة والانكفاء، ليس دقيقا. لأن مثل هذا الاتجاه يتعارض مع خطط الجماعة المستمرة منذ عقود. فالجماعة تعتمد علي انتشارها في المجتمع، لأنها حركة اجتماعية تبغي إصلاح المجتمع أولا، وتعتمد علي قوتها الشعبية في المقام الأول. مما يجعل عملها وانتشارها في المجتمع، هو وسيلتها في الإصلاح. واتضح أيضا، أن فكر سيد قطب قد تم تفسيره من خلال المدونة الفكرية لحسن البنا. فرؤية سيد قطب الخاصة بالعزلة الشعورية، فهمت في سياق فترة الستينيات، واعتبرت أنها رؤية تخص المرحلة التي لا تجد فيها الدعوة الإسلامية أي مجال للحركة، كما فهم تعبير جاهلية المجتمع، علي أنه وصف للحظة التي يبتعد فيها غالب المجتمع عن الدين، وأنه وصف أدبي وليس حكما فقهيا. بمعني آخر، لقد وضع فكر سيد قطب في إطار المنهج الأساسي للجماعة، والذي حدده حسن البنا. لذا كان القول بوجود اتجاه قطبي، يخرج عن منهج حسن البنا، ليس قولا دقيقا. لكن هذا لا يعني عدم وجود اتجاهات متنوعة داخل جماعة الإخوان المسلمين، فوجود التنوع حتمي، كما أنه ضروري. ولكن المشكلة كانت في التصنيفات الشارحة لهذا التنوع، والتي مالت إلي تصنيف محدد، جانبه الصواب كثيرا. فكل جماعة الإخوان متفقة علي أهمية العمل المجتمعي والسياسي والدعوي، ومتفقة علي أهمية التفاعل مع المجتمع، والانتشار فيه. وداخل هذا الاتفاق، نجد اتجاها داخل الجماعة يعطي أولوية للتماسك التنظيمي، كما يعطي أولوية لإصلاح المجتمع، ويري أهمية بناء قاعدة مجتمعية قوية، قبل التفكير في تغيير النظام السياسي. وهو ما يمكن تسميته بالاتجاه التقليدي، والذي يتشدد في التركيز علي أهمية الإصلاح من أسفل إلي أعلي دون القفز علي المراحل. وفي المقابل نجد اتجاها آخر، وهو الاتجاه التوفيقي، وهو يركز أكثر علي أهمية العمل علي تحقيق الإصلاح السياسي، ويري أهمية للإصلاح من أعلي، ويعتبر أن العمل السياسي له دور مركزي في تحقيق الإصلاح الشامل. لذا نجد الاتجاه التقليدي يعتبر التنافس للوصول للسلطة، أمرًا مؤجلا وغير مطروح في المستقبل المنظور، ولكن الاتجاه التوفيقي يري أن التنافس للوصول للسلطة، رغم أنه مؤجل، إلا أنه قد يحدث في المستقبل المنظور. لهذا يهتم الاتجاه التوفيقي بتكييف أوضاع الجماعة مع مرحلة التنافس للوصول للسلطة، كما يهتم بتكييف خطابها السياسي مع خطاب النخب السياسية الأخري، فيما يركز الاتجاه التقليدي علي الخطاب الأساسي للجماعة، حتي يبني القاعدة الاجتماعية الضرورية لبناء المشروع الحضاري للجماعة. كما يلاحظ أن الاتجاه التوفيقي، يميل أحيانا للمواجهة السياسية مع السلطة الحاكمة تمشيا مع مواقف النخب المعارضة، عكس ما قيل في الصحافة. أما الاتجاه التقليدي فيؤجل مرحلة التنافس علي السلطة، وبالتالي يعتبر مواجهة النظام مؤجلة أيضا. ولكن كلا الاتجاهين، التقليدي والتوفيقي لا يمثلان أغلبية داخل الخط العام للجماعة، وهو ما تجاهلته معظم التحليلات، فهناك الخط الأساسي للجماعة، والذي يمثل الأغلبية داخل الجماعة، ويمثل أيضا الأغلبية داخل قيادة الجماعة، سواء في مكتب الإرشاد الحالي أو السابق، كما ينتمي له أغلب المرشدين، ويمكن القول بأن المرشد بحكم موضعه يمثل هذا الاتجاه. وهذا الاتجاه يمثل الوسطية، ويمثل حالة التوازن. فهو اتجاه يحاول تحقيق التوازن بين حركة الجماعة وتماسك تنظيمها، ويحاول تحقيق التوازن بين النشاط السياسي والاجتماعي والدعوي. كما يري هذا الاتجاه أن الجماعة مستمرة في مرحلة إصلاح المجتمع، وتعمل في الإصلاح السياسي، وتعتبر أن مرحلة التنافس للوصول للسلطة مرحلة قادمة في التوقيت المناسب. والاتجاه الوسطي داخل الجماعة، يستفيد مما يطرحه الاتجاه التقليدي والاتجاه التوفيقي، فيأخذ من الأول التركيز والتأكيد علي ثوابت الجماعة، ويأخذ من الثاني أهمية تطوير العمل السياسي والخطاب السياسي، مما يعضد الاتجاه الوسطي داخل الجماعة ويجعله أكثر قوة. والمتابع لقيادات الجماعة، يجد أن موضعها يتغير مع الوقت، وعبر المواقف المختلفة، فهذه الاتجاهات ليست جامدة. كما أن المتابع لتطور الوضع الداخلي للجماعة، يري أن المسافات بين تلك الاتجاهات تقترب في مراحل معينة. وهذا من أهم ما تحقق في الانتخابات الأخيرة، حيث ظهر الاتجاه الوسطي غالبا داخل الجماعة، وظهر ميل الاتجاهات الأخري للاقتراب من اتجاه الوسط، وهي لحظة تحدث في تاريخ الجماعة، وتعبر عن التوصل إلي توافق واسع حول مختلف القضايا، فتبدو الجماعة أكثر تجانسا، مما يبلور توجهاتها بوضوح. يضاف لهذا، أن جيل قيادات الجماعة الحالي في أغلبه من جيل السبعينيات، والذي يمثل أغلبية أعضاء مكتب الإرشاد. وهذا الجيل استوعب كل تجربة الجماعة، كما استوعب كل الاتجاهات والآراء، وأصبح يمثل الحاضن الرئيس لفكر الجماعة وخطها المركزي، وغلب عليه الاتجاه الوسطي، فأصبح محققا للتوازن في فكرة الجماعة ومنهجها. كما أن جيل السبعينيات، شهد بداخله تنوعًا، مثل غيره من الأجيال، مما يؤكد أن القضية لا علاقة لها بالأجيال، ولكن لها علاقة بالتنوع في الفهم والتصور. وجيل السبعينيات كانت له إضافة مهمة، فقد وضع أسس التخطيط والتفكير العلمي للجماعة، وركز علي البنية العلمية للتنظيم، فهو جيل له إضافاته المهمة، كغيره من الأجيال. هذا ما حدث في انتخابات جماعة الإخوان، بروز واضح للاتجاه الوسطي الجامع لخط حسن البنا، وبروز واضح للتوجه نحو التوازن في نشاط الجماعة، وأيضا بروز واضح للأسس المتفق عليها داخل الجماعة. كما أنتجت انتخابات الأخيرة، حالة تجانس واضحة داخل قيادة الجماعة، مما قرب الاتجاهات المختلفة من بعضها البعض.