لن أفيض في ذكر ما كانت تردده دعوتنا السلفية بالإسكندرية على مدى عقودٍ متتالية والتي تعد من صلب العقيدة كوجوب الحكم بما أنزل الله وحكم من لم يحكم بغير حكمه وشبه ذلك مما كانت فيه سجالات تطول وتطول. قامت الثورة وبعدما قامت كتبت عدة مقالات أبتغي منها إصلاح ما رآه كثيرٌ من الناس معوجًّا واقترحت فيه اقتراحات على رأسها إنشاء حزب تتولاه كوادر سياسية على خبرة بالواقع وبالتنوع الشديد الذي فيه تمتلك أدوات العمل الحزبي المنفصلة تمامًا عن اللغة الخطابية الإنشائية العاطفية التي اعتدنا عليها في العقود الغابرة، وكتبت غير ذلك مقالات، ثم بعدها أمسكت لأسباب منها؛ انشغالي بأحداث الثورة المتتالية والمتسارعة، وإحباطي الشديد من واقعٍ كنا نبغي غيره من ثورتنا.
وفي غمرة هذا الإحباط كنتُ أبدأ في كتابة المقال فيأخذني عنوة فأُمسك، فالمستفزّات كثيرة لكن الإحباط بسببها أكبر، أما وقد وصلت دعوتنا بالإسكندرية إلى المفاجأة التي كان ينتظرها الجميع وهي اختيار الرئيس، وكان كثيرٌ من المتحدثين يزينون بكلامهم ما اتخذته الدعوة من قرار اختيار الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح.
المشكلة لديَّ في الجمع بينه وبين الخلفية التي نشأ عليها كثيرٌ من أبناء الدعوة السلفية بالإسكندرية، وقد تعلّمت في أصول الفقه أن ثمة طرقًا عند توهّم التعارض بين الأدلة منها الجمع والترجيح والنسخ، أما محاولة الجمع فباءت بالفشل فالدكتور أبو الفتوح لديه خلفية إسلامية يحلو للبعض أن يسمّيها وسطية أو معتدلة أو مستنيرة، أو غير ذلك من الألقاب التي كان ينظر إليها كثير من السلفيين باستعلاء ومقتٍ؛ لأنها تكون مبنيّة على الاجتزاء والتفريط والتمييع إلى غير ذلك من الألقاب التي كان يطلقها الكثير من السلفيين، وأذكر كثيرًا من السلفيين كانوا يسمّون الدكتور أبو الفتوح خاصة على أنه زعيم التفريط والتمييع ونحوه، وهذا بالمناسبة مسطور في مواقعهم إلى الآن، بل أبدى بعض قادتهم ارتياحًا بالغًا لخروجه من مكتب الإرشاد قبل الثورة، فإذا كان وجوده في مكتب الإرشاد خطأ حسب رأيكم، فكيف يكون وجوده في منصب رئيس الجمهورية صوابًا؟؟
دعوتنا بالإسكندرية -وعلى ما تقدّم ذكره في ابتغائهم المشروع الإسلامي- كان كلامها على الإخوان لا ينتهي، ثم ظهر من بين المرشحين رجلٌ إسلاميٌّ كما يتصوّره السلفيون، يقيم دولة الحلال والحرام –كذا يقول-، رغم اختلافي معه في آراء كثيرة، إلا أنني –ووفق ما تربّيت عليه في دعوتنا، أجده مناسبًا تمامًا لما يدعونه، فتوقّعت أو هكذا حلا لي الأمرُ، أن يأتي قرار الدعم التام للشيخ حازم أبو إسماعيل، فلم يأت.
وبدأت تفسخات كثيرة رأيتها أنا بين أبناء الدعوة، فمؤيدو الشيخ حازم وأنا أجدهم أكثر تناسقًا مع ما يدعون إليه انشقوا –شعوريا على الأقل- عن الدعوة السلفية التي لم تعلن قرارها إلا متأخِّرًا، وجاء اختيار د. أبو الفتوح استكمالا لصدمتهم، كما صدم المنتظرين أيضًا. فقد كان تصوّري بعد استبعاد الشيخ حازم –والذي لم يدعموه ولم يقفوا معه بكلمة- أن يدعموا د. محمد مرسي، فهو أقرب إليهم من د. أبو الفتوح، وهو الدليل على ما يذكرونه من حرصهم على وحدة الصف (الإسلامي)، ويؤكّد ذلك أنهم في كثيرٍ من المواقف اختبأوا في ظهر الإخوان وتلقّى عنهم كثيرٌ من الإخوان كثيرًا من الضربات.
لكن الأغرب أنهم دعموا د. أبو الفتوح، ولست في عداء للرجل وقد يكون الأقرب إليّ من كل ما سبق، وإن كان أقرب منه إلي د. البرادعي لأنه ببساطة شديدة كانت رؤيته في الإصلاح الجذري ناضجة قبل أن يسقط النظام، وبعدما سبق وترشّح كان بالنسبة إليَّ أملا، في أن يحدث شيء في البلد جديد. وبالنظر إلى كلام أبو الفتوح المشهور عنه، والذي انتقدته الدعوة من أجله طيلة سنين، لا أجد فيه اختلافًا عن كلام البرادعي، بل هو أشد صدمةً لهم لأنه قد يحمل توجهًا عكسيًّا، بينما لا يدخل البرادعي في بعض هذه المزالق أصلاً.
دع البرادعي ودع شجونه، نرجع مرة آخرى لموقف دعوتنا بالإسكندرية، و"الدين النصيحة" حديث من رؤوس الإسلام، دعوتنا كانت تمشي في الظلام بمنهجية لم تختبر بعد، ولما أن جاء الاختبار اكتشفنا أن الأمور فيها كثيرٌ من الأمور.
أقبل لا شكَّ أن ترشَّح الدعوة من تشاء، لكن الذي لا أقبله أن تركب (سيارة التبريرات) التي سئمناها منذ بدء الثورة، وأن توهمنا أن لا تغييرًا في المواقف يحدث، ولا أصلا من أصولك تركت، وأنك أنت أنتَ، الذي كنت تشرح في الحكم بما أنزل الله قبل أكثر من سنةٍ فقط، وفوق كل هذا وذاك ولأن الذي يخرج القرارات مشايخ، توهمنا بأن هذا مبنيٌ على الشرع، وأن ثمة خطرًا كان يعتريني عندما أدعم رجلا كالبرادعي؛ لأنه ببساطة قد خَتَمتَ عليه في (ماكينتك) بأنه ليبرالي، حتى وإن كان أكثر إخلاصًا من كثيرين، فهو ليبرالي وأنتم تعرفون الباقي.
توهمنا أيضًا بوحدة الصف، وتوقع كثيرًا من الشباب في إرهاب الخروج عن الصف وشقِّه، وإرهاب الخروج عن الدين، وإرهاب التشتت، والحيرة في أناسٍ كان يعتبرهم الدين، وهو الخطأ الأكبر الذي يتحمّله المشايخ.
وحينما أبحث عن وحدة الصف لا أجد غير صفّك أنت، الذي تطلب من الناس أن يصطفّوا وراءه.
كلّ هذا يسوغ لو اعترفنا جميعًا بأننا بشر نصيب ونخطئ، وأن ما حدث منّا خطأً وجب الاعتذار عنه وبيان الصواب للناس، وإن لم يحدث فقد دخلنا في دائرة التضليل، التي يدور في فلكها الكثير.
كل هذا يسوغ لو اعترفنا أننا بشرٌ علمُنا قاصرٌ لا سيما في السياسة، فدعوتنا حديثة عهدٍ بها، بعد طول هجر ونهي عن ممارستها، وعداء لمن يمارسونها.
كل هذا يسوغ لو اعترفنا بأننا بشر، وأن احكامنا هذه ليست الدين، وإنما آراء قد تصل بالبشر إلى أن تسئ إليه.
كل هذا يسوغ لو كففنا عن شعارات تُغري كثيرًا من الشباب وترفعهم للسحاب، ثم تتركهم هكذا في الهواء والعراء.
لكن في وقت اختلط به الحابل بالنابل، ساغ كل شيء طالما ركبنا سيارة المبررات وتزويق الكلام، كمندوب المبيعات الحريص كلَّ الحرص على رواج سلعته وإن كان فيها ما فيها.
لما سبق ولغيره الكثير، شهدنا تفسخاتٍ كثيرة في الدعوة، واستقالاتٍ من الحزب، حتى صرّح بعضهم أنه سيرجع إلى دعوته وإلى منبره، وأنا أقول له أفلحتَ وأصبتَ، فرحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، وويلٌ لآخر توهّم نفسه كل النفوس.