لن يقتنع أحد بأنى لست ضد حق المنتقبات فى ارتداء نقابهن طالما اخترت الكتابة عن هذا الموضوع الحساس بل والخطير فى هذه المرحلة الخطيرة فى بلادنا وما يجعل الأمر أكثر خطورة هو كونى غير محجبة ولا أنوى التحجب ولا أؤمن بأن الحجاب هو فى صلب عقيدتى أو أننى عاصية ولست مسلمة جيدة لعدم ارتدائه. إلى هنا يكفى هذا المفتتح لتلغيم هذا المقال الشائك أصلاً وابتداء. من وقت طويل أتأمل بل فى الحقيقة نحن كلنا مجبورون على رؤية ومن ثم أحياناً أيضاً تأمل مظهر النقاب الأسود بخاصة فى بلدنا مصر. لماذا النقاب ؟ . أسأل نفسى هذا كل مرة أرى سيدة منتقبة . وأعلم أن هذا المقال سيجر الكثير من السباب والشتائم علىّ . لكن أتساءل أيضاً : لماذا لا يحب أو يتقبل أكثر من يؤمنون بالنقاب فكرة مناقشته خاصة لو أتت ممن ليست محجبة ولا توافق على أن تتحجب هى شخصياً ؟ . جربت نفسى فى مطارات دولية كنت أرى فيها منتقبات من جنسيات أخرى بالصدفة فلم أكن أشعر بالغرابة والانقباض أو التوتر حين أرى نقاباً أبيض مثلاً أو مزركش الألوان . قلت ربما هو الارتباط الثقافى لدىّ بين النقاب والأسود كلون للحداد لدى عامة المصريين وحتى لو قلنا أن هذه النقطة( اللون ) قد تتراجع يوماً مع تنامى المد الإسلامى وعنفوانه لدينا ستبقى أشياء فى الموروث الشعبى الجمعى مثل تشاؤمنا الفطرى من رؤية أو عبور قطة سوداء مثلاً وتفاؤلنا بالعكس أو ابتهاجنا – بلا تفسير – بالألوان الفاتحة لا القاتمة. أصدق أن كثيراً ممن يرتدين النقاب ربما تم فرضه عليهن ولا يجرؤن على إعلان ذلك . وأصدق أن لكل إنسان مطلق الحق فى ارتداء ما يريد وما يناسبه دون تعارض ذلك مع قانون أو أمن أو حرية الآخرين فى نفس البلد فمن أين أتى اللون الأسود للنقاب ؟ . إذا اختارت إنسانة ما النقاب يكون سؤالى التالى لها : هل الحياة تحتمل كل هذا التعذيب وحمى التغطية حتى للوجه والعينين حتى لتمشى ببطء كبير فقط كى لا ترتطمى بأحد أو بجدار فى المترو والشارع أو ممسكة بذراع زوجك أو شقيقك ليقودك - كما أرى مراراً- لأنك أبطلتِ وعطلتِ إحدى أعظم النعم التى من علينا بها الله - البصر؟ .ومن الأسئلة التى تشغلنى أيضاً فى هذا الموضوع - أى الحجاب والنقاب – هل يتساوى ثواب أو أجر من تغطى شعرها الناعم بمن تغطى شعرها الأجعد ؟ . إذا اتفقنا على وجود ثواب ما على موضوع تغطية الشعر وليس الاحتشام بحد ذاته ، لماذا لا يوجد مُفتٍ أو شيخ لديه من الشجاعة ما يجيب على هذا السؤال وغيره ؟ . كيف تتساوى من تسعى لتغطية سبب للقبح بمن تغطى ما يعد مصدراً للفتنة والجمال ؟. ألا يمكن إعفاء ذات الشعر الأجعد الإفريقى من التحجب ، وبفتوى ؟ من الأسئلة التى تطوف بذهنى : هل حقا أنتِ مقتنعة أن وجهك وعينيك عورة وسوءة ؟ .. لأنه لو كان كذلك والله لم يأمر بنقابك فلماذا تفعلين ما يوحى بأنك تعرفين عن التقوى والصلاح وتلمسهما أكثر مما يعرف الله ؟ .ألا ترين هذا تطاولا وتزيداً كأنك تقولين له : " أنت نسيت هذه النقطة أو الآن أنا فعلت أكثر من غيرى المحجبة وبالتالى رصيدى عندك يجب أو يفترض أن يكون أكبر". يبدو لى النقاب كثيراً كأنه – وأستغفر الله – يشبه البقشيش الدينى !. ثم أن النقاب لا وجود له فى إحدى أقدس بقع الأرض .. فى شعيرة الحج كما أحب أن أذكّر من يطالبوننا بعدم الاختلاط فى الأماكن العامة والعمل بأنه الأجدر بهم أن يمنعوا الاختلاط بين النساء والرجال فى الطواف حول الكعبة حجاً وعمرة . الله لا يريد مجتمعاً مفتعلاً جوهره البدع. يبقى السؤال : وهل – حتى لو اقتنعتِ بأنك تحبين الاقتراب من صورة نساء النبى صلى الله عليه وسلم – وبفرض أن النقاب عبادة لا عادة.. هل حدد لك الله أيضاً اللون ؟!!. لا أتوقع كما قلت فى البداية سوى سيل من الشتائم . لكنى لا أجد إجابات لهذه الأسئلة التى يثيرها هذا الزى بلونه شبه الأوحد – الأسود فى بلدنا . الحرارة الفظيعة المرتفعة من الزى وخامته – لأن أغلبه يكون جاهزاً – تجعل صاحبته فرناً متحركاً تجر أذيال الثوب الطويل على سلالم وشوارع عاصمتنا بالغة القذارة حتى يتحول ذيل الثوب للون يقترب من الأبيض الكالح من جمعه للتراب والقاذورات والورق الذى ينشبك به ونكاد أحياناً سواء الرجال أو النساء أن ندعس على الثوب الذى يطير للخلف فيشغل عدة سلالم ودرجات خلفه ما يدفعنا لترك المنطقة المحيطة بصاحبته طلبا للأمان كى لا تتعثر وتسقط هى ونحن . قفازات وجوارب سوداء.. عدة طبقات من أغطية للرأس تنتهى بالأسود وأحياناً لو ظهرت العينان فهى لا تكف عن النظر للآخرين . حق الرصد والتلصص والتأمل من طرف واحد . أنت عارٍ أمام من اختار أن يتغطى ويراقبك . تختنق بهذا الوضع غير المتكافئ بالغ الشذوذ فتدير وجهك . هذا كل ما تملكه . أتخيل للمحة زمنية أن مجتمعنا بأكلمه صار يشمل كتلاً متحركة من السواد. تنظر إلى الكتل – خاصة لو صرت واحدا منها ولم يتم منع الكتل من أن تقر فى بيتها – وهى تتحرك فى مسافات بعيدة لا تعلم هل هى آتية باتجاهك أم تذهب بعيداً عنك. النساء فقط هن اللواتى يخضعن لعملية طمس كاملة لمعالم أنوثتهن . وكأن العيون فى الشارع، عيون النساء نفسها ، لا حق لها فى رؤية أجساد وشعور وأعناق بعضها البعض . من الطبيعى أن اكتائبنا الذى له كل الأسباب فى الدنيا سوف يزداد . أصدق أن اكتئاب المصريين المتعاظم من سنوات لمختلف الأسباب قد ازداد بسبب الحجاب . ليس فقط ضغط فرضه فالمؤكد أن هناك من تحجبن برضاهن طبعاً وهناك أجيال ولِدت فى ظل تفشى الظاهرة فمارستها أو خضعت لها بلا تفكير حتى .. أى ليس الورع والاقتناع الكامل هما عين الواقع فى كل حالة وفيما كنتُ فى السابق أنتقد بينى وبين نفسى أشكال الحجاب المتنوعة بين البنات والجهد الذى يبذلنه لتتميز كل واحدة بألوان أو بشكل تحجيبة مختلفة عن غيرها ومدى " ضيق " البنطلون الذى ترتديه بعضهن ، صرت أفرح بهذا التحدى الظاهرى للحجاب والمجتمع من داخل " الشكل " الامتثالى المنصاع . إنها الحياة والشباب والرغبة فى إظهار الأنوثة والبحث عن الجمال والإعجاب ولو صامتاً كغريزة حقيقية تولد بها الأنثى .. أن تكون الأجمل والأكثر إدارة للرءوس . صرت أتفاءل بأن هذه الظاهرة المولودة بداخل الظاهرة الأكبر هى بذرة حرية تتململ ... بذرة طبيعية صحية حتى ولو كانت نتيجتها التناقض المحتوم مع الظاهرة الاجتماعية لزى أو يونيفورم شبه مفروض اجتماعياً أو دينياً بدرجة ما . لهذا أرى عبارات " تغطين شعرك وتعرين جسدك ؟" كأسئلة استنكارية وعبارات من نوع " الكاسيات العاريات فى النار " التى تقوم إدارة المترو أحياناً بإزالتها فتبقى آثارها واضحة المقروئية .. أراها عبارات دالة على مشكلة آتية حين يتم فرض الحجاب بالقانون على الأعداد القليلة جداً من السافرات وأنا منهن . . خاصة لو اقترن التطبيق بالتهديد والوعيد عبراستحداث وتنفيذ عقوبات تنتمى لعصور سحيقة وربما لم تكن يوماً تُطبق على من لسن متحجبات أو من لا يرضيه حجابهن من الفقهاء فى عصور سابقة .. إلا لو تمت إضافة الحجاب لأحد أركان الإسلام الخمسة كى يستحق تركه توقيع أحد الحدود مثلاً . والأمر الآخر المحزن هو أن حساسية الموضوع تجعل الكثيرات – باستثناء د. نوال السعداوى مثلاً التى يكفرها تيار الإسلام السياسى وهى سيدة مسنة على أية حال – أقول أن حساسية الموضوع تجعل أغلب من يتكلم أو يكتب عنه من الرجال وليس من النساء . هذا هو الوجه الاخر لعلاقات مجتمعية منافقة تحاول فيها المرأة كلما أمكن أن تتجنب المواجهة والصدام .. الوجه الآخر لل " تحدى " الذى تمارسة البنات المتحجبات بابتكار أشكال شديدة لفت النظر لوجوههن أو لحجابهن . وعموماً خارج السواد – أى العباءة السوداء السعودية أو الخليجية بل حتى الإيرانية المصدر – أرى الموضوع كأنه يحمل بعض الأمل . بل إن الشادور الأفغانى لا يبدو لى مأساة كبيرة فى بلاده ، فأفغانستان حتى قبل سيطرة الطالبانيين أو الغزو السوفيتى ثم الأمريكى كانت دوما قبلية . أما الفارق الحقيقى فهو أن اللون الأسود للبرقع ومظهر " الخيمة " التى تسدلها المرأة الأفغانية على نفسها على الأقل ليس أسود ، ليس مستورداً ثقافياً من بلاد تُحرّم الألوان على النساء وتفرض حداداً أبدياً عليهن لمجرد أنها تحرم أيضاً ارتداء أزياء بلون محدد عليهن فى التعامل مع الموت . صار الحجاب وسيلة تمييز دينى أو إعلان هوية دينية وهو يخلق الشعور بالاختناق نتيجة لقانون التماثل . أى تماثل على نطاق واسع هكذا ومزمن يتداخل معه الضغط العام لفرضه يعظم الاكتئاب والملل . فنحن لم نُخلق للتماثل . إذا ما أُضيف للتماثل حالة شاملة من الحشد والإلحاح المهووس على فكرة واحدة : الدين وتغطية الجسد بشكل مبالغ فيه وحتمية الظهور دائماً فى حيز المرضى عنه ، المحترم ، الورِع والمهذب .. تصبح الحياة وقتها كرنفالاً غير محتمل . معرفتنا اليومية أننا سنصحو لكى نرى كل هذا الكم من الأردية والنساء اللواتى بلا ملامح وقد رضين بطمس كل ما يميزهن من أجل مشوار الشارع أو العمل يثقل على أرواحنا التى تكاد تسقط منا . أتذكر نشوتى حين رأيت مجتمعاً نسائياً مؤقتاً – بشكلٍ خالص – فى النادى الاجتماعى الذى نتمتع بعضويته . فى أيام أو ساعات السباحة المخصصة للسيدات أرى الأمهات مع أطفالهن . الأمهات يخلعن حجابهن ونقابهن . يعدن نساء . يسبحن ، يتشمسن ، يأكلن ويمشطن شعورهن . ينظرن إلى بعضهن البعض كأن كل واحدة تريد التأكد من " نوعها " بالنظر إلى نوع وجنس الأخرى . عالم كامل من النسوة مع أطفالهن أراه أنا وبلا نسوية متزلفة – مكتفياً بذاته لا ينقصه شئ . شعور النساء أكثر من مساحة عرى أجسادهن هى التى تستوقفنى فأظل أنظر إليها بحسرة ما أعلم أنه سيكون وأداً وتغطية وشيكة . حين تنطلق صفارة التحول الكبير من الأمن ( النسائى) تمهيداً لعودة الحياة المختلطة التى تفرض الاعتذار عن النوع .. أشعر بالحزن رغم أنى أرفض عدم الاختلاط بكل عنف وإصرار . تبدأ النساء فى جذب كل إيشارب أو طرحة بسرعة لتغطية شعورهن المبتلة وتبدأ الأجساد الحرة التى استردت إنسانيتها وطبيعتها فى مكان عام فى العودة ككائنات بلا هوية جنسية عدا الغطاء ، كرمز دال على النوع . تبعد العلاقة مع النوع جداً أكثر الوقت . وفى البيت تعود كل منا شبه أنثى بتحرر جسدها من طبقات الأغطية . لكن هذه حرية مشبوهة بالضبط لأنها ليست اختياراً بقدر ما هى تخفف فى الفضاء الوحيد المسموح للمرأة فيه أن تستعيد جزءًا من هوية نوعها .. ربما لكى لا تنساه . تعنى الحرية أن يكون أمامى دائما حق الاختيار وخيارات متعددة وأن أكون متمتعة بحق قانونى ومفاهيمى من جانب المجتمع الذى أعيش فيه يحمى اختيارى ولا يعاقبنى عليه . . أن أكون قادرة على أن أظهر ما يقبل المجتمع بظهوره من الجسد وأتخذ القرار بعدها إما بممارسة ذلك الحق – بعض الإظهار - أو إخفاء ذلك . وطبعا الحرية ليست فقط ذلك .لكن الحرية بالضبط عكس الجبر – بأية صورة – ولو كان عبر محاولة استرضاء الأهل أو الضغط المتبادل بين بناتهن وبينهن للحصول على " مكاسب " متبادلة فى علاقات أسرية.. كالحصول على حقوق صغيرة مثل الخروج مع الصديقات مثلاً مقابل أن أتحجب . لأن الحرية تعنى عدم الاضطرار للكذب والتحايل . إنها تفرض قانونها الخاص دائماً وجوهره لا يتبدل . العلنية والمواجهة . الإنسان والمواطن غير الحر هو مشروع إنسان منافق دائماً مهما كانت فكرته عن نفسه . المرأة المحجبة يكون عليها عبء قطع مسافة أكبر بعيداً عن حالات الاستخباء الجسدى طوال اليوم . السلوك التعويضى قد يبدو افتعالاً أوقاتاً . أفكر فى المسافة بين ارتداء سيدة للنقاب ثم خلعه لارتداء اللانجيرى للزوج . لا شك هى تبقى مسافة، ومسافة صعبة تُحدث شيئاً فى النفس . أى إنسان مها كانت قناعاته لا بد سيرى أنها " نقلة " تتطلب مراناً وتعوداً نفسياً يومياً وهذا أمر لا يمكن بحال مقارنته بالوضع بالنسبة للراهبة مثلاً فى عقائد أخرى فالراهبة لا تهتم بشعرها ولا ترتدى لانجيرى لأنها لا تتزوج ولا تضع المساحيق .ليس على الراهبة قطع مسافات متذبذبة بين أنوثتها ونفسها فى إقبال وإدبار . أو هكذا أظن. يعبر عن حالة النقاب/ اللانجيرى هذه شبه الفصامية وجود بعض محلات وسط البلد وقد قسمت فاتريناتها بين ملابس حجاب ونقاب سوداء كئيبة متماثلة أو تكاد والقسم الثانى من الفاترينة يكون للانجيرى ! . ورأيت شيئاً مماثلاً فى محل محدد يبيع ملابس الأطفال أيضاً بوسط البلد . هنا دمى وعرائس صغيرة إما لأولاد عليها ملابس ضابط - الأمنية التقليدية المزعجة التى نتمنى أن تغيرها وتطيرها الثورة للأبد - أو الدمى التى تعرض ملابس البنات الصغيرات . يضعن بدلة الرقص الشرقى الحمراء على واحدة من العرائس القزمة وبجوارها دمية طفلة محجبة بحجاب أسود !! . وذات رمضان هلت علينا تلك العرائس الصينية الصغيرة التى أدرك الصينيون أنها لن تبيع إلا لو حجبوها ، وزادوا فنقبوها أيضاً . كان الآباء يشترونها لبناتهم كتحفيز على التوحد مع فكرة التغطية التى لم يكتفوا بالواقع وبنماذج الأمهات والشقيقات والسيدات الغريبات أيضاً لتحقيقها . بشكل لا يختلف كثيراً تُسوق الأنثى فى المجتمعات القامعة نفسها أيضاً كسلعة تجيد الامتثال وتحترم قوانين التوارى وحيل خفض الصوت بلا حرية حقيقية فى ظل ضغط عام يطارد كل من تلتزم بخطوط مستقلة لحياتها ومظهرها . كل " اندراج " يزيد معاناة أؤلئك اللواتى وقفن خارج المشهد منذ البداية ويُصعّب عملية المقاومة التى اخترنها كأسلوب حياة . أما السر فى الابتسامة المصرية بل والعربية المفقودة ، تلك الابتسامة العريضة ولو داخل الروح التى يستردها المواطنون المصريون والعرب حين يخرجون لأجازات فى مجتمعات أوروبية حرة فهو ببساطة نتيجة لهواء الحرية الأصيل الذى لا غنى لكائن حى عنه .