عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعاء سلطان تكتب: إيران.. الدولة المراوِغة
نشر في الدستور الأصلي يوم 20 - 02 - 2012

في طهران شارع معروف -كان أحد أسباب الأزمة السياسية بين مصر وإيران- اسمه: شارع خالد الإسلامبولى.. نعرفه فى مصر بأنه قاتل السادات، والحقيقة أننى لا أكره هذا الشخص ولا أحبه، ولكن هذا لا يمنع إيمانى الكامل والمطلق بأنه محض قاتل، سألت سائق التاكسى عن الشارع، فعرض أن ينقلنى إلى الشارع مباشرة، فقلت له: لا.. فقط، أريد أن أعرف.. هل هو فعلا أهم وأكبر شارع فى طهران؟! وهل تعرف خالد الإسلامبولى هذا؟!
قال السائق بعفوية: هو شهيد مصرى وأحد المجاهدين العرب ضد الظلم، ولكن الشارع ليس أكبر شوارع طهران.. هل قالت لك شركة السياحة إنه أحد معالم المدينة؟!
لم أرد، ومررت فى اليوم التالى مرور الكرام على الشارع، مع أصدقاء إيرانيين.. «اثنين من المخرجين وصحفية».. الحقيقة أننى لم أشعر باختلاف الشارع عن غيره من شوارع طهران، لكن ما زالت المدينة بالنسبة إلىّ من خلال الانطباعات الأولية ونظرات سائحة متعجلة، بلد الانحيازات المزعجة والمراوغات المقيتة.. بلد تغطى النساء، لكن «وشها مكشوف»، فقد بنت ضريحا لأبى لؤلؤة المجوسى، قاتل سيدنا عمر رضى الله عنه، يحتفل فيه المتطرفون بذكرى قتْل الفاروق بمدينة تسمى كاشان، بينما أكثر المعارضين لولاية الفقيه هناك يؤكدون أن مقام «مرقد باب شجاع الدين أبى لؤلؤة فيروز» مجرد مزار غير مهم فى مكان غير مهم لطائفة متطرفة غير مهمة، ولذلك فلا مجال للجدال، ومن ناحية أخرى تم دفن شباب انتفاضة إيران الذين خرجوا فى مظاهرات احتجاج ضد تزوير الانتخابات عام 2009، بلا مراسم، ولا يعرف حتى ذووهم أين ترقد أرواح هؤلاء الأحرار.. ماتوا غرباء وأخفوا قبورهم حتى عن أقربائهم.. ادعوا الله أن تكون مقبرتهم جماعية.. كى لا يحسوا بوحشة.. يكفى أنهم عانوا وحشة القهر ووحشة الموت بأيد غادرة، ثم وحشة قبر كئيب لا يزوره أحباؤهم.
بشكل عام استخدم النظام الإيرانى أسماء الشوارع لتصفية حساباته السياسية مع خصومه، ففى طهران، ستتعجب عندما تجد شارعا باسم «خيابان بوبى ساندس» أى شارع بوبى ساندس، وهو مقاتل من الجيش الجمهورى الأيرلندى، توفى عام 1981 بعد سجنه من قبل الحكومة البريطانية، فأعلن إضرابه عن الطعام حتى توفى بعد 66 يوما من إضرابه، والأكثر غرابة أن السفارة البريطانية فى طهران تقع فى هذا الشارع، والأغرب من ذلك هو أن هذا الشارع كان اسمه قبلها «شارع تشرشيل» القائد البريطانى الأشهر، وقد ضغطت الخارجية البريطانية لتغييره، ولم تستجب إيران، كما لم تستجب لضغوط مصر بتغيير اسم شارع الإسلامبولى!
رغم ما تحويه القاهرة من مظاهر قبح ظاهرية، وقهر لا يخفى عن كل حر، فإننى عندما أصطحب أصدقاء أجانب فى جولات فيها -قبل الثورة وبعدها- أشعر بفخر بقيامى بدور المرشد السياحى لهم فى شوارعها ومقاهيها.. أذهب بهم إلى أكثر مناطقها فقرا وتلوثا دون أن أشعر بالخجل، لكن أصدقائى الإيرانيين يشعرون بالخجل وهم يتجولون بى فى أنحاء طهران بأسئلتى التى لم تتوقف، رغم أن إيران -ظاهريا- أكثر تنظيما ونظافة من القاهرة، وربما لذلك كان من الجيد أن ألتقى والد صديقتى، لأتعرف على بعض الفخورين بطهران، أو إيران بشكل عام.
نحن الآن فى طريقنا لتناول الغداء فى منزل صديقتى الإيرانية.. المنزل فى منطقة هادئة، وشارع ضيق، يميز مناطق الطبقة الوسطى فى طهران.. شقة أنيقة وبسيطة.. تشبه أى شقة لأسرة متوسطة فى مصر.. تتوسط صالتها مكتبة ضخمة.. مع طابع فارسى محبب بوجود السجاد العجمى برسومه وزخارفه الأنيقة وألوانه الدافئة، مغطيا أرضية المنزل وبعض جدرانه.. الاستقبال حميمى ومدهش، والغداء يحوى أطباق المشويات الإيرانية بكل أنواعها يتوسطها طبق «الشيشليك» وهو الكباب الإيرانى ببهاراته المميزة والخاصة جدا مع الأرز البسمتى. والد صديقتى كان موظفا فى إحدى الهيئات التعليمية ثم عمل مدرسا للغة العربية، فاللغة العربية مادة أساسية فى المدارس الإيرانية ويدرسونها مدة خمس سنوات، وهو الآن على المعاش.
قال لى بحماس إنه كان يتابع أخبار ثورتنا يوما بيوم، فكانت فرصة جيدة بالنسبة إلىّ للحديث مع رجل درّس اللغة العربية فى الأردن ويتحدثها بطلاقة، وعاش فترة ما قبل الثورة الإيرانية التى أصبحت إسلامية، وها هو الآن يقضى الباقى من عمره فى كنف إنجازاتها!
هل كنت ممن شاركوا فى الثورة الإيرانية على الشاه؟
انفرجت أسارير الرجل، وبدأ فى حكْيه: كنت أنا وزوجتى من المشاركين فيها طبعا، كان الفساد السياسى والاقتصادى وقتها يزكم الأنوف، ورجال الشاه يسيطرون على مقدرات الأمور فى البلد، بينما كان الناس فقراء، مع وجود جهاز «السافاك» الذى كان يعتقل المعارضين للشاه ورجاله ويلقى بهم فى السجون ولا يهم إن ماتوا فيها، ومع إباحة الشاه لحرية شكلية، قمع خلالها المعارضين ونكّل بهم، كنا نحن الشباب نعانى من القهر وكبت الحريات، وكنا منزعجين من التفاوت الطبقى وتزايد عدد الفقراء وبذخ الشاه وعائلته، خرجنا فى ثورة على الشاه وحزبه ونظامه، بكل طوائف الشعب عمالا وطلاب جامعات وموظفين، ولا يوجد صديق لى أو أى أحد من أقاربى إلا وشارك فى الثورة، إلى أن طردنا الشاه، وجاء الإمام الخمينى، وبالمناسبة جاء الرجل وطرح فكرة التصويت على دستور لجمهورية إسلامية فى استفتاء شعبى، فصوت أغلبية الناس لهذا الدستور ومنحوه الثقة، أى أنه لم يفرض نفسه ولا حكمه على الناس.
هنا تدخلت ابنته فى الحديث، وقالت له بحدة: لكنه اختطف الثورة، ونكّل بمن قاموا بها، ومن بينهم أتباعه، فقتل بعضهم، وسجن البعض الآخر، وهرب الكثيرون منهم خارج إيران.
رد عليها: كان يعتقد أن ما يفعله من ضمن أهداف الثورة، خصوصا أنه كان يحارب معارضيه والجيش الذى كان يكره الثورة، وقد اختاره الناس بإرادة حرة، نِكاية فى الجيش الذى حاربهم، وكراهية فى النظام الذى ثاروا عليه، ولم يكن من اللائق معارضة إرادة الناس، والحقيقة أن الكتب وشرائط الكاسيت التى كنا نسمعها ونتبادلها سرا للخمينى، كانت واحدة من أسباب خروج الناس ضد الشاه.. كان الرجل يتحدث عن كرامة نفتقدها.. كان هو القائد الفعلى للثورة وكان من حقه أن يتولى مقاليد الأمور.
سألته بدورى: هل أنت راض عن نتائج الثورة التى خرجت لأجلها منذ 33 عاما، فالقمع السياسى الذى مارسه الشاه تحول إلى قمع سياسى ودينى تمارسه ولاية الفقيه، والشاه الذى منحكم حرية مجتمعية، جاء النظام الثورى وسلبها منكم، والحريات الظاهرية التى منحها لكم الشاه، صارت سرية الآن، مع سيطرة رجال الدين على عد أنفاس الناس فى الشوارع.. هل قمتم بثورة لمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية، أم للقضاء على هامش الحرية السابق؟!
يتوقف هذا على فهمك للحرية، فأنا أتصور أن الحرية السياسية هى قمة الحريات، أليس من الحرية أن يختار الناس الحكم الدينى؟!
واستكمل حديثه: ثورتنا كانت ثورة كرامة على نظام الشاه الذى جعلنا تابعين مذلولين له فى إيران وتابعين لأمريكا خارجيا، وكانت الثورة فرصة لتحريرنا من هذه العبودية.. نحن شعب يمتلك حضارة حقيقية، وقد كنا فعلا نشعر بغصة من تبعيتنا لأمريكا، وجاءت الثورة وجعلتنا نِدًّا لأمريكا، ومهددا قويا لإسرائيل.. ولدينا انتخابات حرة، ونسبة تعليم تجاوزت ال85 فى المئة، وبرنامج نووى لا شك أنه يخيف المحيطين والمتربصين بنا.. وقد أنهى كلماته ب: «عموما علينا أن نعترف بأن الحسابات السياسية تختلف عن الحسابات الإنسانية، وثورتنا نجحت نجاحا تاما من الناحية السياسية».
سألته: والإنسانية؟! أشار إلى سجادة صغيرة معلقة على الحائط وقال: اشتريت هذه السجادة من أحد المعارض منذ خمسة أعوام، بما يقارب الألف دولار.. غَزَل حريرها عامل إيرانى من مدينة شيراز، واستغرق فى غزلها ثمانى سنوات، وخرجت بهذه الصورة الرائعة.. الصبر من أهم سمات الشخصية الفارسية.. قضينا فى سنة وبضعة شهور على حكم فاسد حكمنا أكثر من 35 عاما وترك لنا بلدا مشوَّها ذليلا.. فرض الشادور الأسود على الإيرانيات، ويوما بعد يوم، أصبح الشادور زيا رسميا لكبار السن والعاملات فى الهيئات الحكومية، وبعض النساء التقليديات قى القرى، بينما نجحت النساء فى فرض أنماطهن الخاصة فى الزى، وأكمل قائلا: ربما يستطيع أبناؤنا أن يقضوا على حكم بنى لنا دولة كبيرة، لها ثقل عالمى فى أقل من ذلك، ليبدؤوا من حيث انتهينا.. فقط أتمنى أن أعيش أحداث الثورة القادمة.. وقبل أن ينصرف، قال كلمة أخيرة وتركنا: وعدنا الخمينى بعدم قمع أى إيرانى بسبب آرائه بعد الثورة، ولكنه للأسف افتتح سجونا جديدة، إضافة إلى سجون الشاه لقمع كل من قال رأيا يخالفه، والحجة كانت منع الفوضى، والحفاظ على كيان الدولة.. أنا أكره السياسة.
ابنته -صديقتى- كانت ضمن من خرجوا فى الانتفاضة الخضراء عام 2009 احتجاجا على تزوير انتخابات الرئاسة، وهى الانتفاضة التى تم قمعها بالكامل! قالت لى بعد انصرافه: أبى يشعر بالمرارة، لكنه يؤمن بالثورة إيمانا مطلقا، فلا علاقة له بالتيارات الدينية، وهو ليبرالى بطريقة تستفزنى أنا شخصيا، ولذلك فإنه يرى أن اختيار الناس هو المحدد الوحيد للحريات، وإن رفضه بعض الناس، وهو يرى إيجابيات كثيرة -هو صادق فيها تماما– للثورة الإيرانية، فرغم فرض الزى على الإيرانيات مثلا، فإن المرأة الإيرانية تسير فى شوارع طهران بثقة، وكثيرات منهن يعشن بمفردهن فى طهران، يقدن السيارات بحرية -قيادة السيارة محرمة على النساء فى السعودية مثلا- بل إن هناك خدمة تاكسى تقوده النساء، والإيرانيات يعملن فى الإطفاء وفى الشرطة، ويتلقين نفس التدريبات التى يتلقاها الرجال.
معالم وعناوين جيدة لبلد متحضر قام بثورة من أجل إعلاء قيمة المواطن، وأقر وفرض كثيرا من القيود، حفاظا على ثورته، إضافة إلى خصوصية موقعه بموقفه المعادى للكيان الصهيونى، وتعامله مع أمريكا بمنطق أنها «الشيطان الأكبر» كما وصفها قائد الثورة الإيرانية.. الإمام الخمينى.
شعب يكافح ويناضل ويتفوق داخليا رغم الحصار الاقتصادى المفروض عليه، ورغم القيود السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية التى تكبِّل خطوات مواطنيه.. ورغم الأموال التى ينفقها نظامه لبسط نفوذه وفرض سيطرته بمؤازرة وتمويل أشخاص ومنظمات وجماعات وحركات فنية وسياسية واجتماعية فى دول أخرى، فقد كان من حق هذا الشعب الذى يعمل بكَدّ ويختلس متعته، ويتحايل على قيوده، أن يسخر من سذاجة من فرضوا القيود عليه.
قبل وصولى إلى طهران، كانت قد بدأت فاعليات احتفالات الثورة الإيرانية الإسلامية بعيدها ال33.. لا حديث لضيوف المهرجان إلا عن مهزلة المجسَّم الورقى للإمام الخمينى، فقد صممت السلطات تمثالا ورقيا للإمام الخمينى وأنزلته من الطائرة، واستقبله الحرس الثورى، حتى وصل إلى المكان الذى ألقى فيه خُطَبه الأولى بعد وصوله من منفاه عام 79 بجنوب طهران، ثم جلسوا معه «المجسم الورقى!»، ليناقشوه فى أحداث العالم ومشكلات إيران وأزماتها! وتجولوا به بعدها فى شوارع العاصمة طهران فى موكب رسمى، لم يستمر أكثر من نصف ساعة.. نقله التليفزيون الإيرانى على الهواء، وانقطع الإرسال فجأة، فقد كان استقبال الشباب الإيرانى للموكب مهينا لمن فكر فيه ولمن شارك فيه، كما كان مهينا للثورة وللإمام نفسه.
مع حجب العديد من مواقع الإنترنت، فإن الإيرانيين لا يشاهدون سوى المحطات الإيرانية -هذا رسميا- ولكنهم يتحايلون على الأمر بتركيب أطباق استقبال على أسطح منازلهم وفى بلكوناتهم، وفى بعض الأحيان تنشط حملات التفتيش التى تهاجم أسطح المنازل وتصادر أطباق الاستقبال «الدش»، هكذا قالت لى الفتاة العراقية التى تعمل ضمن فريق مهرجان «فجر» السينمائى، والتى تعيش فى طهران، عندما تحدثت معها عن رغبتى فى مشاهدة قنوات أخرى بخلاف قنوات «Press TV» و«I Film» و«العالم» المفروضة علىّ فى الفندق، فقالت لى: هذا غير مسموح، سألتها: هل يشاهد الإيرانيون هذه القنوات فقط؟! هل يستسلمون لمثل هذه القاعدة؟!
قالت: إنهم يقومون بتثبيت أطباق استقبال جديدة بمجرد مصادرة السلطات للأطباق الموجودة، وفى الغالب تتغاضى الشرطة عن الأمر فى الأوقات العادية، التى تكون الأمور السياسية هادئة فيها، خصوصا أن عمال التركيب يضعون سواتر على الأطباق، فيصبح شكلها مقاربا لأجهزة التكييف! لم أتخيل شكل السواتر على أطباق الاستقبال، وفشلت العراقية فى شرح الشكل لى، ولكن فكرة التحايل على العيش فى مجتمع مغلق هى التى أسرتنى، فالمجتمعات المغلقة تخلق فنونا جديدة وتحرض أبناءها على ابتكار مسالك للعيش كما يرغبون وخارج إطار المسموح. فى إيران مثلا تُجرى النساء من 75 إلى 100 عملية تجميل للأنف يوميا، بما يعادل نحو 30 ألف عملية سنويا، عرفت المعلومة عندما شاهدت بالصدفة سيدتين تضعان لواصق طبية على أنفيهما فى يومين متتاليين، سألت وقتها صديقتى: هل يضرب الرجال الإيرانيون السيدات فى أنوفهن؟!
فقالت: لا.. أنت شاهدت سيدات أجْرين عمليات تجميل للأنف، وبالمناسبة عمليات تجميل الأنف منتشرة فى إيران، لأن الإيرانيات لا يملكن إلا وجوههن لجذب الرجال إليهن، ولذلك يجب أن يكون الوجه فى صورته المثلى، فالجسد بالكامل مغطى!
بالطبع استغربت المنطق، ولكن هذا المنطق فى مجتمع مغلق لا يثير الاستغراب.. ليست كل الفتيات قادرات على إجراء الجراحة، فالعملية تتكلف نحو سبعمئة دولار، لا تقدر على دفعها سوى فتيات الطبقة الوسطى أو العليا.. نموذج تتّبعه بعض الفتيات للارتباط والزواج هناك.
الغريب والمفاجئ بالنسبة إلىّ أن التحايل على قوانين السلطة الإيرانية، فى ما يخص الشذوذ مثلا، وهى الجريمة التى يُعدم من يُتهم بها، وصلت إلى أن أصبحت إيران الدولة الثانية فى العالم فى عمليات تغيير الجنس، فهذه العمليات مسموح بها بشدة فى إيران بفتوى رسمية دينية من الإمام الخمينى نفسه، ويحصل من يجريها على بطاقة هُوية بتغيير نوعه بمنتهى السهولة!
الصرامة فى تطبيق القوانين بدستور دينى لا يقبل الجدل ولا يتغير إلا بقرار من الإمام، خلق إبداعا فى التحايل، وأفرغ الفرض الدينى والقانونى نفسه من قيمته ومعناه وثوابه عند الله، فالحجاب الذى يفرضه القانون الإيرانى على نسائه، لم يعد رمزا دينيا إسلاميا، بل أصبح رمزا لقمع الإرادة، فقد عانت الإيرانيات قبل الثورة ومنذ ثلاثينيات القرن الماضى من قانون «رفع الحجاب» وهو قانون سنَّه رضا الشاه، منع النساء من خلاله من ارتداء الحجاب، وكانت السيدات الراغبات فى ارتداء الحجاب وقتها، خصوصا من الطبقة الأرستقراطية، ترتدين قبعات أوروبية لتغطية شعورهن! عندما تقمع أى سلطة الناس باسم الدين سلبا أو إيجابا، دون ترك مجال أو مساحة لاختيارهم الحر، فإنها بالتأكيد تضع الدين نفسه فى موضع تمرد الناس، بنفور غير واعٍ منه، أو إقبال غير واعٍ عليه.
تعم شوارع طهران مظاهر احتفالات باهتة بذكرى 33 عاما على الثورة الإسلامية، ويخطب مرشد الثورة على خامنئى يوم الجمعة الموافق 3 فبراير بجامعة طهران خطبة يسرد فيها إنجازات الثورة الإسلامية، ثم يخطب باللغة العربية، موجها خطابه إلى مصر والمصريين لينصحنا بالخطوات التى يجب أن نخطوها للوصول بالثورة المصرية الإسلامية إلى ما وصلت إليه إيران!
هلّل الجمهور الحاضر للخطبة، وحضرت أنا بعدها مؤتمرا لمؤسسة الفارابى للسينما، لمناقشة سبل التعاون بين إيران والدول العربية التى قامت فيها ثورات «إسلامية» مثل تونس ومصر كما ذكر مسؤولو المؤسسة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.