هو رمز للثورة، رمز حقيقى وأصيل، لهذا كان مهما أن يعود إلى نفس المكان الذى خرج منه فى ثورة يناير ليقف فيه ويعلن منه أن «ثوار أحرار.. ح نكمل المشوار». عن الدكتور البرادعى (ومن غيره؟) أتحدث.. كنت معه فى جامع الاستقامة بميدان الجيزة فى جمعة الغضب وكنت معه، أمس، فى 25 يناير 2012، فما الذى تغير؟ أولا: الدكتور البرادعى (وهنا لا أتحدث عن مرشح رئاسى، بل عن قيمة وطنية مرموقة) لم يتغير، وأظنه -بعد هذا العمر وتلك الاختبارات- لن يتغير أبدا، نفس الاستقامة فى جامع الاستقامة، استقامة فى الرؤية وفى الموقف وفى القرار. ثانيا: الرسالة التى أردنا أن تصل بالعودة إلى ذات المكان أن أشياء بالطبع تغيرت، فعلى الأقل لم تَعُد هناك جحافل الأمن المركزى ولا قنابل الغاز ولا خراطيم المياه الكبريتية تواجهنا وتحاصرنا وتضربنا فى الميدان، لكن ما تغير محدود وقليل، بل وبخْسٌ جدا مقابل الثمن عالى الكلفة الذى دفعته مصر خلال الثورة وبعدها، ومن ثَم فالثورة لم تكتمل ولم تنته ولم تنجح حتى الآن، فكان ولا بد أن نعود، من وجهة نظر أعداء الثورة ومدّعى حبها فإننا نعيد تمثيل الجريمة، لكن الحقيقة أن استمرار الثورة يعنى الوقوف فى وجه جريمة إجهاضها من المجلس العسكرى وحلفائه وأتباعه! ثالثا: لم تتغير الوجوه فى الجامع وبين آلاف المحتشدين الذين صَلَّوْا معنا ،وخرجتُ معهم فى مسيرة شارع مراد متجهين إلى ميدان التحرير كما جرى تماما فى جمعة الغضب، الوجوه شابة فى أغلبها إن لم تكن كلها، متألقة بالتحدى والتصميم والبهجة، منظمة جدا ومتحضرة تماما، محددة هذه المرة وواضحة فى هدفها، والعجيب أنه نفس الهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام». الشباب -وأغلبه له فى كرة القدم- يشعر كمن أضاع ضربة جزاء فاصلة فى المباراة، ولا بد من الفوز فى الوقت الإضافى، وحتى لو وصلت إلى ضربات جزاء ترجيحية. إن أسوأ ما يفعله المجلس العسكرى وحليفته، الأحزاب الدينية، هو الاستخفاف بهذه العزيمة الشابة التى ذاقت معنى النصر وشافت دم زملائها الشهداء من أجل الحرية. إن هذه الرُّوح هى التى يجب أن يستوعبها التقليديون والعجائز والمسنون فى النظام القديم الذى لم يسقط حتى الآن، إذا كانت هناك رُوح أكتوبر وقد صعدت إلى بارئها منذ فترة فإن رُوحا جديدة قد وُلدت فى 25 يناير، رُوح مضحية ومستَبْيعة وفاقدة وحالمة ومستنفرة ومستفزة، وستجعل عاليها واطيها، لو أرادت أو لو أُجبرت على ذلك، هل تريد مثالا؟ فى جمعة الغضب، وبينما عشرات القنابل بدخان الغاز ترمى فوقنا، اقترب منى شاب فى نهاية العشرينيات عرَّفنى بنفسه وكان ابن مسؤول مهم فى الحكم، وأخبرنى أن الساعة خمسة سينزل الجيش الشارع وستتم إقالة الحكومة وتعيين الوزير رشيد رئيسا للحكومة الجديدة، وتعيين عمر سليمان نائبا للرئيس، كل هذا حدث تماما بعدها، فقط كان رشيد قد رفض فعلا تولِّى الحكومة، استغربت ساعتها من شيئين.. الأول: ما الذى جاء بشاب من قلب الفريق الحاكم إلى المظاهرة، وكان الجواب أنه ثائر على فساد يعرفه أكثر ممّن حوله. والثانى: لماذا لم يفعل النظام يومها ما جهزه مبكرا؟ وكان الجواب أنه نظام غبى متوهِّم أنه يمكن احتواء ما يجرى. أمس فى قلب مظاهرة استكمال الثورة واستمرارها اقترب منى شاب وعرَّفنى بنفسه أنه فلان ابن القاضى الذى حكم علىَّ بالسجن عاما، وجهُه الطيب البرىء كان صادقا جدا وهو يعتذر إلىَّ بحرارة أخجلتنى، وسرد لى أسبابا برَّر بها والده -دامعا- حكمه ضدى عندما سأله ابنه، وقد حرصت على أن أقدمه إلى الدكتور البرادعى، فما كان من الشاب إلا أن كرر للدكتور البرادعى مبررات والده فى الحكم ضدى، معتذرا بإلحاح، وبغض النظر عن وجاهة المبررات فإن هذا الشاب الآن فى قلب مظاهرة ضد النظام. إنها الرُّوح الجديدة التى لن تفهمها العقلية القديمة (أبدا) عندما وصلت إلى ميدان التحرير اشتكى إلىَّ رجل مسن غيابَ العلاج الكيماوى فى وحدة علاج مجانية حكومية فى الهرم منذ ثلاثة أشهر. لقد شُفت هذا كثيرا فى 25 يناير 2011، مواطنين من فرط الظلم الواقع عليهم والذى يسحب منهم حقهم كبنى آدم قبل أن يكونوا مواطنين وصلوا إلى الميدان، ورغم المرض وعلته فإنهم الأكثر حماسا وغضبا، وكان الرجل عنوانا -عندى- لأن الثورة لم تنجح حتى الآن، ولا يجب لها أن تنتهى الآن فلا شىء قد تغير فى إحساس حكام البلد بكرامة المواطن! فى الميدان كانت هناك آلاف الوجوه المصافِحة المحبة المرحِّبة المتضامنة المتسائلة المعجبَة العاتبة، لكنها كلها كانت وجوه «يناير الثورة» التى صاحبتُها وصاحبتْنى 18يوما من الهتاف إلى العناق إلى الْتقاط الصور التذكارية. والغريب أن الناس لم تتوقف عن طرح الأسئلة عن المستقبل، وماذا نفعل؟ وماذا لو لم يسلم «العسكرى» السلطة؟ وكأن الميدان صار حقل الأسئلة فى مصر، وإن كانت الإجابة الموحدة الحاسمة منذ عام: «الشعب يريد إسقاط النظام» ما زالت صالحة للاستخدام! المؤكد عندى أن الثوار الذين لم يقبلوا -خلال أيام الثورة- منح مبارك ستة أشهر إضافية حتى يكمل مدة رئاسته الخامسة لن يسمحوا أبدا بأن يمنحوا المجلس العسكرى هذه المِنحة!