على مدار أكثر من 30 عاماً عانت فسادا وقمعا وكبتاً للحريات، عانت فقرا واقتصادا متدهورا وحياة ضنكا، عانت من رئيس متكبر ومتجبر وشعب خاضع وخانع، عانت من تزوير الانتخابات وفساد الأحزاب والمعارضة الديكورية الوهمية وكان الله بالسر عليم، عانت وعانت وعانت. لا بالتأكيد لا، أنا لا أتحدث عن مصر أو أي دولة عربية أخرى بل أنا أتكلم عن دولة إسلامية تشابهت ظروفها وظروفنا، فسادهم وفسادنا، حكمهم وحكمنا، ثاروا وثرنا، أطاحو بحاكمهم وأطحنا، ولكن ذهبوا همُ في طريق وذهبنا نحن في طريق أخر تماما. إنها إندونيسيا التي حكمها الديكتاتور سوهارتو لثلاثة عقود ويزيد، عانو خلالهم الأمرّين، حتى طفح بهم الكيل في عام 1998 حيث كانت الثورة الإندونيسية في ربيع مشابه لذلك الربيع العربي، ثارت فيه الثورة الإندونيسية على نفس الكاتالوج الثوري وسلكو نفس المراحل التي سلكناها ولكنهم كان لهم اختيارات أخرى غيّرت النتائج وانتهت بهم في طريق أخر. وكانت الخطوات التي سارت عليها كل الثورات الحديثة هي نفس الخطوات التي سارت عليها الثورة الإندونيسية ولكنها قاومت بعض العقبات ونجحت فيما فشل فيه الأخرون فلنستعرض سوياً هذه الخطوات ونرى كيف تحولت إندونيسيا من دولة ديكتاتورية متأخرة في عام 1998 إلى ديمقراطية متقدمة عام 2012. 1- قمع أمني وتدهور اقتصادي الخطوة الأولى دائما تكون القمع الأمني من قبل نظام غاشم، فعندما نقول إن إندونيسا تشابهت في ظروف دول كثيرة في المنطقة فقد كنا نعني ذلك بمعنى الكلمة الحرفي، التشابه ليس مجرد تشابه في العموميات بل يشمل الخصوصيات أيضاً، فإندونيسيا كانت تعاني فساد مشابه ومنتشر ومتأصل ومتجذر ليس فقط على المستويات القيادية ولكن أيضاً في الصفوف الخلفية والقيادات التحتية كلُ فيما يستطيع أن يفسد به وفيه، الرشوة هي أسلوب حياة وليست مجرد فعل استثنائي تفعله قلّة من الناس. "تفضيل أهل الثقة على أهل الكفاءة" هل تتذكرون هذا المثل الذي أرسيت مبادئه مع انقلاب 1952؟ وكذلك كان الأمر في إندونيسيا حيث كان يتم تهميش الكفاءات لصالح الوسايط والمحسوبيات والمقربون والحائزين على الثقة المطلوبة. الأوضاع الاقتصادية أيضاً كانت واحدة، فالأزمة الاقتصادية التي ضربت آسيا بصفة عامة اضطرت حكومة سوهارتو إلى اتخاذ حزمة من تدابير التقشفية من أجل سداد العجز في الميزانية وسداد الديون. كان هناك اضطهاد أيضاً للتيارات الشيوعية والإسلامية على وجه الأخص، وكانت الاعتقالات الممنهجة تمارس بحقهم بين الحين والأخر مما لوّث البيئة السياسية وجعل معارضي النظام ما بين معتقلا أو ديكوراً وهي كلها أمور مهّدت لقيام الثورة الإندونيسية الشعبية في 21 مايو 1998. 2- انتفاضة شعبية وخروج إلى الشارع حالة القمع ودرجة الفساد التي وصلت إليها البلاد لم يعد يحتملها الشعب الإندونيسي خاصة بعد تملك سوهارتو وزوجته أكثر من 1200 شركة وسيطرتهم على عدد من الصناعات الحيوية في البلاد في مجالات السيارات والكيماويات والفنادق ووسائل الإعلام وهو ما يقابله حالة من التقشف الشديد التي يعيشها الشعب الإندونيسي بسبب الأزمة المالية الآسيوية وانخفاض الأجور والبطالة. وبالفعل وبحلول يوم 21 مايو 1998 بدأت الاحتجاجات تتصاعد شيئاً فشيئاً من خلال طلاب الجامعات الذين كانو شرارة هذه الثورة بعد إطلاق قوات الأمن الرصاص على 6 من زملائهم بجامعة تري ساكتي ممن كانو يقودون مظاهرة مناهضة للرئيس الإندونيسي سوهارتو واشتعل غضب الطلاب في الجامعات الذي انطلق بدوره إلى الشارع ثم في العاصمة جاكرتا كلها. أكثر من مليون إندونيسي حاصرو مبنى البرلمان الإندونيسي واختطفو أحد أعضائه وشعارهم واحد "يسقط ملك الحرامية " ومطلبهم أيضاً واحد وهو استقالة سوهارتو. 3- سيناريو الفوضى.. اشربو يا ثوار تعاملت قوات الأمن بمتهى القوة والعنف وقتلت المئات مما أشعل غضب الثوار أكثر وأكثر وبدأت الأعداد تتضاعف وتتزايد وتملئ الشوارع والمواجهات تتسع لتشمل كل مكان على وجه إندونيسيا في جزرها ال 18 ألف، قوات الشرطة بدت على ما يبدو غير قادرة على السيطرة على الأوضاع وهو تتورط يوما بعد الأخر في هذه المسألة من خلال قتل المزيد والمزيد. وبناءً على ما سبق فقد تم استدعاء قوات الجيش من أجل السيطرة على الأوضاع ولكن بمجرد نزول قوات الحيش إلى الشارع وقد أعلنت بعد ذلك عدد من الوحدات انضمامها إلى صفوف المتظاهرين وسقطت العصا الأمنية من يد سوهارتو وأصبحت الشوارع في يد الثوار ولا أحد غيرهم. وعلى الفور بدأ المئات في مهاجمة الشركات التي تملكها عائلة سوهارتو وتحرقها فورا ثم بدأ التوجه بعد ذلك إلى كل المطاعم والمحلات الفارهة، وأي شئ يرمز إلى البذخ يتم سرقته ونهبه على الفور، وكان نتيجة لكل ما سبق أن تم إغلاق المدارس والمحال وأصيبت العاصمة الإندونيسية بالشلل التام. 4- سقوط رأس النظام على الرغم من تدهور الأوضاع بهذه الصورة واستمرار الاحتجاجات لأكثر من 10 أيام إلا أن سوهارتو بقى مصراً على التمسك بالحكم في محاولة بائسة للاستمرار حتى أنه أقنع بعض رموز المعارضة والتيارات الإسلامية بصرف المحتجين وحاول دبّ الفرقة والخلاف بينهم ولكنهم أبو أن يعودو من الشارع إلا بعد أن يسمعو استقالة سوهارتو. أخيراً شعر سوهارتو أنه لا مناص من الاستقالة فقام بتسليم السلطة إلى نائبه وذراعه اليمنى بحر الدين يوسف حبيبي رغم أنه لم يكن قد مضى على توليه فترته الخامسة سوى شهرين فقط. 5- محاولة إنهاء الثورة بحجة نجاح الثورة وكما جرت العادة في كل الثورات الحديثة فقد حاول الرئيس الجديد للبلاد أن يقنع المحتجين أن ثورتهم قد نجحت بالفعل وأن الوقت قد حان للعودة إلى منازلهم من جديد حتى تبدأ مرحلة البناء ولكن الثوار الإندونيسيون كان متنبهين إلى أن بحر الدين يوسف حبيبي هو في الأساس مساعد الرئيس سوهارتو وذراعه اليمنى. وضربت البلاد بعد ذلك أزمة اقتصادية قوية حاول النظام الجديد استغلالها في القضاء على الثورة بحجة التركيز في الإنتاج والصناعة إنقاذ البلاد من كبوتها ولكن هذه المحاولات لم تلق أي استجابة كما لم تلق محاولات رجال حبيبي بث الفرقة في نفوس الثوار أي صدى وباءت كلها بالفشل. 6- بث الفرقة وتخوين الثوار على الرغم من محاولات حبيبي المتكررة ضرب صفوف الوحدة بين الثوار واستمالة بعضهم ضد الأخر وتأليبهم على بعض بحكم اختلاف المصالح إلا أن كل هذه المحاولات لم تؤت ثمارها وسط إدراك تام بأن حبيبي هو مجرد مساعد للرئيس الذين أطاحو به لتوهم، وبالتالي فأي محاولة لبث الفرقة من قبل الرئيس الجديد مهما كانت مقنعة ولكنها في النهاية كانت مكشوفة. و بمجرد أن شعر الثوار أن حبيبي يقدم نفسه باعتباره رئيساً جديداً للبلاد خرجوا إلى الشوارع من جديد كي يجبروه على إعلان نفسه قائداً للمرحلة الانتقالية وليس أكثر من ذلك، وقد كان بالفعل، وأعلن عن إجراء الانتخابات الرئاسية عام 1999 بعد عام واحد من الإطاحة بالرئيس سوهارتو ولكن رغم كل ما سبق بدأ النظام أيضاً في استهداف الشيوعيين وأعضاء التيارات الإسلامية وكان يتم محاكمتهم بصورة سريعة، ولكن هذه المحاولات كان غالبا ما يتم الكشف عنها وإعلانها على الملئ ، وهو ما كان يأتي بنتيجة عكسية ويضطر حكومة حبيبي إلى تخفيف الرقابة أكثر وأكثر وسحب صلاحيات الحكومة وقبضتها على الإعلام بصفة عامة. بدأ الثوار يسحبون أو لنقل ينتزعون صلاحياتهم من الحكومة الانتقالية بالقوة قدر الإمكان، فكان هناك في البداية رفضاً تاماً لفكرة التجمعات أو التظاهرات ولكن أُجبر حبيبي على السماح بالتظاهرات والتجمعات ولكن بإشعار مسبق للشرطة. 7- انتخابات ثورية صورية هذه المرة الانتخابات في إندونيسية كانت ثورية ولم تكن صورية فعلى الرغم من أنها ربما كانت أقل من المعايير الدولية بعض الشئ إلا أنها في النهاية لم تكن انتخابات فاسدة وعبّرت بصورة حقيقية عن إرادة الشعب الإندونيسي ذا الأغلبية المسلمة، وكان الجدل بعدها حول هوية الدولة هل تكون مدنية أم إسلامية؟ وتوصلو إلى اتفاق أن يكون هناك مبادئ إسلامية عليا وتقوم المؤسسات على مبادئ مدنية لا تفرق بين شخص وأخر. وفوجئ المواطن الإندونيسي بما يزيد عن 182 حزبا سياسياً تقلصت بعد الانتخابات بعدما تبين أن كثير منها هي في حقيقة الأمر أحزاب صورية وورقية لا وجود حقيقي لها في الشارع. وفي عام 1999 انتخب عبد الرحمن وحيد رئيساً للبلاد قبل أن يتوفى إثر جلطة دماغية ليعقبه سوسيلو بامبانج يوديويونو حتى الآن. وتقدر بعض الإحصاءات أن إندونيسيا بحلول عام 2025 ستكون واحدة من الدول التي يعتمد عليها العالم اقتصادياً، بعد أن حققت نجاحات اقتصادية رائعة أدت إلى ارتفاع معدل نموها بصورة واضحة لتصبح واحدة من النمور الآسيوية.