ما بين يوليو 1952 ويوليو 2012 –والذي يصر العسكر على عدم تسليم السلطة للمدنيين قبله- ستون عاماً كاملة ، انتقل قبلها الحكم من نظام يتضح للجميع الآن امتيازاته الفارقة مقارنة بحكم العسكر ، فعلى الصعيد السياسي والعلاقات الخارجية ، فقدت مصر الكثير إن لم يكن معظم مكانتها وريادتها اللتان ترسّخ وجودهما بقوة في عهد ثاني ملوك العسكر "جمال عبد الناصر" وأهدرها كل من بعده ، وعلى الصعيد الإنساني فالمفارقة المخجلة التي تدعو لعميق الرثاء تترتب على نتيجة وضع تصريحات اللواء "مختار الملا" عضو المجلس العسكري في المؤتمر الصحفي الذي انعقد صبيحة الخميس الرابع والعشرين من نوفمبر تعليقاً على استشهاد 38 متظاهر – في إحصاء رسمي مشكوك في صحته- أنه من حق وزارة الداخلية وقوات الأمن المركزي إطلاق الرصاص الحي "قانونياً" للحفاظ على مبنى يزعم سيادته أنه يتعرض لمحاولات شرسة ومستميتة للهجوم ولكن قوات الأمن لا تفعل ذلك تكرماً وتفضلاً منهم ، مانحين حق الحياة للمصريين ، ياللعظمة! ، ضع الآن هذا التصريح بجوار كلام الملك فاروق الذي هرع متنحياً عن الحكم حقناً لدماء المصريين والتي اعتبر أن نقطة واحدة منها أغلى من بقائه لحظة واحدة على العرش. على الصعيد الاجتماعي فقد جاءت محصلة هذه الأعوام الستين دالة وكاشفة عن الإفقار والتجويع والحصار وتوسيع الفروق بين الطبقات والرهان الدائم على التأقلم و "شد الحزام" ، وللفقر آثاراً جانبية بالغة الخطورة والشراسة أولها الأمية والجهل ونقص الوعي ، وعند اجتماع الفقر والجهل لا يوجد ساعتها مهرب من "الخوف " كضلع ثالث لهذا المثلث القمعي الرهيب ، فيظل هذا الشعب في بيوته وأعماله يسيّر حياته المُتوَهمة ، والتي أقنعه العسكر طوال فترة حكمه أنها حياة !، يظل الشعب يتابع تصريحات اللواء "الملا" والتي يهدده فيها بأنه –كمجلس- الملاذ الأخير ، في ترادف جديد ل "أنا أو الفوضى " في خطاب "مباركي"لم ولن يتغيّر ، ولكن اللواء الملا – بالقطع- لم يزر شارع "محمد محمود" هذا الأسبوع ، من الممكن أن يكون شاهده عبر الشاشة ،وإن كنت أتعجب ، كيف لم يلاحظ تلك البقعة المضيئة شديدة الوهج في قلب الوطن المظلم حزناً على أرواح شهدائه ؟ ، فالرهان على المثلث القمعي السابق ذكره هو رهان زمني بالأساس ، وبالرغم من طول الفترة الزمنية التي تجلّد بها هذا الشعب وتحمّل متبعاً سياسة "شد الحزام "في كل شيء ، أبى إلا أن يفرز نبتة صالحة بدأت شرارة الثورة من يناير الماضي ، بل وقبل يناير في المظاهرات على سلم نقابة الصحفيين وحركة كفاية والاحتجاجات العمالية المتكررة ، ولم يتوقفوا حتى هذه اللحظة . نبتة عبقرية ، خرجت من قلب الظلم والذل والتهميش والعشوائيات ، رفضت أن تتم استعادة الوطن بدون دمائها ، شباباً لتوه قد أصبح شبابا ، في سن الرابعة والخامسة عشر وما دونهما ، يقف على خط النار ، يقاوم الغازات السامة برئات متهالكة من أثر الجو الملوث بالكامل الذي نشأ وترعرع بين جنباته ، يصد الرصاص بجسد نحيل أرهقته الأنيميا وتكالبت عليه الجينات المتسرطنة وسوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية ، وقاموا بتأسيس دولة "محمد محمود" ، تلك الدولة التي صنعت مفرداتها الخاصة ، من علاجات مبتكرة لمقاومة أثر الغازات البيولوجية ، من أقنعة الغاز والنظارات الواقية والبصل والخل والخميرة وأدوية الحموضة ومحاليل الأملاح ، بلا سلاح ، بأيدي تحمل أدوات المقاومة السابقة ، وحجراً إن اضطر ، من الخوذات الهندسية المثبت بمقدمتها كاميرات لتوثيق الجرائم التي يراها العالم أجمع بالصوت والصورة في كل لحظة طوال أربعة أيام ولا يراها اللواء "مختار الملا" ، من بنات مصر الشرسات الملثمات الواقفات على خط المواجهة ، من الكر والفر والهتافات والغناء ، من الدم والعرق والدموع والمخاط وكل سوائل الجسم التي تطردها الغازات السامة من الجسد ، من الأمل الذي يزداد توهجه مع كل جثة شهيد ، وكل مصاب يسقط ويرفض استكمال العلاج ، ليقوم ركضاً للمواجهة ، مدافعاً عن كل من يشد الغطاء على أقدامه بجوار المدفئة وأمام التلفاز ولا يستطيع نزع الخوف من داخله ليسيطر عليه مثلث القهر تماماً ، ولا تستطيع الدماء الساخنة في أن توقظ جزءا ًولو ضئيلاً من إنسانيته ، ليتعاطف ، مجرد تعاطف. وظهر "الألتراس" اللذين كنا نتهمهم بالسطحية والهمجية والسذاجة ، وعدم الاهتمام إلا بالكرة وتشجيع الكرة ، كم هو محرج ذلك الوضع الذي وضع فيه هؤلاء الشباب الأحزاب والجماعات التي ترى أن مقعداً في مجلس أهم من دماء المصريين ، فتتغير النظرة لكلاهم ،ويتغيّر المجتمع –ويتغيّر في كل لحظة – بحدة بالغة ، ليلتحم بعد محاولات مستميتة لتفريقه ، لتقف طبقاته الاجتماعية الأعلى رافعة التحية لشباب "عشوائي" يقود موتوسيكلات صينية رخيصة ، بعد أن كانت نظرتهم لهم تنحصر في "الخوف " منهم كسارقين وقطاع طرق ، يعيد الشعب المصري العظيم فرز نفسه في عملية غربلة أشد من تلك التي حدثت في يناير ، ليحدد من معه ومن عليه ، من لا يهتم إلا بكرسي في البرلمان ومن يقف بصدره العاري ليحمي الباقين ، تحية واجبة لأطباء الميدان اللذين أشعروني بالندم للمرة الأولى لتركي كلية الطب البشري من خمس سنوات ، ولرجال الإسعاف المغاوير اللذين لولاهم لكان الشهداء بالمئات . كلمة أخيرة للمشير طنطاوي ورجاله وخاصة اللواء "مختار الملا "، الشعب المصري لا يحتاج إلى استفتاءاً جديداً ، فلقد أرسل مندوبين من كل قراه ونجوعه ومدنه ومحافظاته للميدان ، ذلك الذي أسقطوا من خلاله طاغية ، وسيستمرون في إسقاط الطغاة ، الميدان الذي لا يراه اللواء "الملا" معبراً عن المصريين ،ليثير تساؤلاً فلسفياً عميقاً عن الشعب الذي يمثله ميدان التحرير! إذا رغب "طنطاوي" في استفتاء ، فلينزل ميدان التحرير ، ليعرف النتيجة .