تخيل لو جاءتك فرصة من ذهب، سقط رئيس الجمهورية وترك لك إدارة شئون بلد في أعلى حالات الوطنية والمواطنة والروح المعنوية المرتفعة، تخيل أنك تدير مؤسسة يحبها كل إنسان في هذا الوطن ويهتف بإسمها الثوار في الميادين ويعلن الجميع عن تغاضيهم عن أخطاء الماضي ورغبتهم في بدء صفحة جديدة، تخيل أن باقي الناس في البيوت خائفون من البلطجة وانعدام الأمن وينتظرون منك أن تفرد ذراع القوة وتحميهم، تخيل أن كل دول العالم تنظر إليك وتحكي عن عظمة ثورة شعبك، وينتظر مواطنوك في الخارج من رجال أعمال وإداريين وعلماء فرصة ليخدموا وطنهم أخيراً، تخيل أن لديك مطلق السلطات لمدة تسعة أشهر تدخل فيها التاريخ من أوسع أبوابه وتكسب حب مواطنيك للأبد ... أليست هذه فرصة من ذهب؟ ولتكون الصورة أكثر واقعية، تخيل أن اقتصاد البلد في أزمة، ورجال الشرطة خارج السيطرة، وفلول النظام السابق تدير ثورة مضادة، وبعض التيارات في حالة تفريغ كبت بعد سنوات من القهر. ليست الصورة كلها مثالية بالطبع، وإلا لماذا نحتاج إليك من الأساس؟ ماذا تفعل إذاً في هذه الفرصة؟ 1. المنطقي أن تعلن في اليوم التالي للثورة التحفظ على كل قيادات النظام السابق وما يدينهم من مستندات، وأن تخاطب دول العالم فوراً لاسترداد المليارات المنهوبة، ولكنك بدلاً من ذلك تتركهم يوفقون أوضاعهم ويعودون للحياة العامة وتتخذ منهم مستشارين لك. 2. المنطقي أن تعزل فوراً كل قيادات الداخلية وتعين وزيراً حقوقياً يتولى هو ومجموعة يختارها بنفسه تطهير جهاز الشرطة بالكامل ولو تحتم عليه أن يعيد تأهيل جنودهم نفسياً، ولكنك بدلاً من ذلك تعتذر لهم على غضب الشعب عليهم، وتتركهم يستعدون للانتقام من الثورة. 3. المنطقي أن تسقط قانون الطواريء الذي كان سلاح النظام السابق وتعد باحترام حرية الرأي، ولكنك بدلاً من ذلك تصدر قانوناً يجرم الاعتصام وتنشط في محاكمة الناس بقانون أكثر قسوة ولا ينطبق عليهم دستورياً ويصدر من رجالك أفعال هتك عرض ودهس متظاهرين ولا تحاسب منهم أحداً. 4. المنطقي أن تختار لجنة من الشخصيات العامة للإشراف على التحقيقات في جرائم النظام السابق وتسرع بالمحاكمات الخاصة بقتل الشهداء، وبتعويضات الشهداء والمصابين، لكنك بدلاً من ذلك تطلق يد قواتك لضرب المصابين وعائلات الشهداء، وتترك المتهمين بقتلهم يهددونهم بالمزيد من القهر حتى يتراجعوا عن الشهادة. 5. المنطقي أن تصدر دعوة لعلماءك الذين يحتفي بهم العالم، أن يتولى كل منهم رئاسة لجنة مهمتها وضع خطة اصلاح طويلة المدى للتعليم والصحة والموارد الطبيعية والطاقة والسياحة والرياضة والصناعة والزراعة والبحث العلمي، لكنك بدلاً من ذلك تتهم كل من يعيش منهم خارج الوطن بالعمالة، وكل من يعيش داخله بالطمع في السلطة. 6. المنطقي أن تستخدم قوتك وتركزها في تأمين الطرق والأرواح، وتضرب بيد من حديد على من يعتدي على الممتلكات، لكنك بدلاً من ذلك تتغاضى عن حرق دور العبادة وتفرج عن من يتم تسليمهم لك من اللصوص 7. المنطقي أن تعلن عن نية واضحة لتعديل هيكل الأجور، وتعهد لمجموعة خبراء بالبحث في إيقاف كل مصروفات الدولة الغير ضرورية ودمج كل أموال الصناديق من خارج الميزانية من أجل توفير كل مورد متاح لتحقيق هذا الغرض، وأن تعلن بشفافية عن المطلوب لتحقيق ذلك لو كان من غير الممكن تحقيقه في الحال، ولكنك بدلاً من ذلك تنفق مجهودك للحفاظ على ميزانيتك الخاصة في مستقبل قد لا تكون أنت فيه حاكماً للوطن. 8. المنطقي أن ترسل مندوبيك حول العالم ليبحثوا عن استثمارات تضخ حياة في الاقتصاد، وأن تخرج على مواطنيك تدعوهم للعمل الجاد في رؤية للمستقبل ترعاها ولا تدعي أنك ستكون جزءاً منها، ولكنك بدلاً من ذلك تكتفي بوضع حكومة صورية لتسيير الأعمال، وتشغل شعبك بمرحلة انتقالية قد تطول لسنوات دون رؤية للنهضة التي يرجوها. 9. المنطقي أن تفتح القصور التي طالما انغلقت على ساكنيها، وتدعو أهل شعبك، تجلس معهم وتحاورهم ولا تتخذ قراراً إلا إذا استشرتهم فيه، وتتوقع منهم بالتالي الدعم في كل خطوة تتخذها، لكنك بدلاً من ذلك تنفرد بقراراتك ثم تتراجع عنها، وتخادع الشعب باستفتاء لا تنوي أن تلتزم به، وتقلب كل جماعة على أخرى وتجلس منتظراً أن تحدث الفتنة. 10. المنطقي أن تغير لغتك وإعلامك ومنطقك ليستوعب حجم التغيير الذي أحدثه جيلاً من الشرفاء الذين لن يتنازلون أبداً عن الحرية، ولكنك بدلاً من ذلك تعقد الصفقات لتمرر دستوراً يكرس لديكتاتوريتك مهما كانت اختيارات الشعب. نعم، كانت الفرصة ذهبية، ولكنك أضعتها وأضعتنا معك ... تخيل!