في بعض الأوقات يحرضني تفكيري وخيالي الشرير علي ممارسة الSelf Defence أو الدفاع الذاتي، والشر ليس موقعه في محاولة حماية نفسي، ولكن الشر الحقيقي هو كيفية حماية نفسي من الألم، أو بمعني أدق من التورط في مشاعر تصيبني بالعجز وقلة الحيلة. ولا يوجد أكثر من محن وكوارث هذا البلد الذي يفترس الفساد فيه ناسه ومواطنيه، خاصة البسطاء منهم لكي تتورط وجدانياً لدرجة الاكتئاب، أضف إلي ذلك أننا كشعب لا يتمكن من التقاط أنفاسه إلا وتأتينا كارثة جديدة من حيث لا نعلم، حريق قطار، غرق عبارة أو حتي معدية وفقدان من عليها، انهيار منطقة عشوائية علي سكانها، وفاة مواطنين بسبب « شوية مطر وسيول»....إلخ. ومثلي كمثل ملايين المصريين، ما أن تقع الكارثة إلا ونشعر جميعا بالوجع وبالغضب وبالعجز وبفقدان الأمل في هذا الوطن، ونردد « عليه العوض ومنه العوض فيك يا مصر». ولكن تبقي ميزة الكوارث في بلادنا أنها لا تستمر طويلاً أو بمعني أصح، فقد أنعم الله علينا بنعمة النسيان السريع الذي لا يجعلنا «نلت ونعجن» في مصيبتنا، لأن مصائبنا متنوعة، وتبقي كلها كالملفات المفتوحة التي لم تغلق بعد. فالأغذية المسرطنة مازالت موجودة ونأكلها...ومازال الملف مفتوحاً، والمحاصيل الزراعية مازالت تروي بماء الصرف الصحي، وهدأت الهوجة ولم نسمع عن وقف هذه المهزلة الإنسانية وكأننا تقبلنا الأمر الواقع ورضينا به، وكثيرة هي الأمور والمصائب التي رضينا بها وتعاملنا معها بمنتهي طيب الخاطر، ذلك الأمر الذي سمح لأصحاب الخيال الشرير مثلي أن ألقي باللوم أحياناً علي الناس، لا لأنني منتظرة منهم ثورة شعبية ولكنني أستاء وأغضب من شعب ومجتمع ذاق طعم الظلم والقهر و الفقر والمرض والفساد والاستغلال، ومع هذا يمارس نفس السلوك البغيض تجاه نفسه وتجاه زميله وجاره وابنه وزوجته وتجاه كبار السن والمعاقين والأطفال، أمارس الدفاع الذاتي عن نفسي باتهام أو بوصف هذا الشعب بجملة «كما كنتم يولي عليكم»، وقد تتصور أن اعترافي هذا منتهي القسوة واللارحمة، وهذا صحيح، لأن المجتمع ذاته أصبح قاسياً غير رحيم.. ماذا حد ث لمجتمعنا أو كما بحث وحلل مفكرنا الكبير د/ جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين؟»، إلا أن الألغاز مازالت معقدة وغير مفهومة، وأنا كمواطنة تنتمي لهذا المجتمع أشعر أنني لا أفهمه، لا أدري إذا كان مجتمعنا غير رحيماً أم عاطفياً، طيباً أم شريراً، قوياً أم ضعيفاً، غبياً أم ذكياً، مؤدباً أم منحلاً ومنفلتاً، مجتمعاً فاسداً أم شريفاً..... «كل ما سبق تساؤلات عن الناس في مصر، لا الحكومة والمسئولين لأنني أظن أن الكثيرين منا لديه إجابة واضحة وحاسمة عن توصيف الحكومة»... أتحدث عنا كمجتمع إنساني... من نحن؟ سؤال لا أجد له إجابة مؤكدة. لماذا كل هذه التساؤلات تطرأ فجأة إلي ذهني؟ لماذا أحاول أن أقحمك معي في تدريبSelf Defence الذي أمارسه مع نفسي فيما يتعلق بعلاقتي مع المجتمع؟ لأنني يوم السبت الماضي قرأت خبراً أو بمعني أوضح حادثة منشورة في جريدة الدستور «الصفحة الثانية» (حريق داخل حضانات الأطفال بمستشفي شبين الكوم يتسبب في حرق طفلة حديثة الولادة). يا الله... أي دفاع ذاتي هذا يصلح ويناسب هذه الحادثة البشعة المؤلمة، والأكثر فجيعة هي تفاصيل الواقعة، حيث اضطرت طبيبة الأطفال أن تضع الطفلة علي جهاز التدفئة الخاص المسمي «السيرفو»، لأنها لم تجد حضانة خالية ولإنقاذ الموقف وضعتها مؤقتاً علي جهاز التدفئة وتم توصيل الأكسجين للرضيعة، ويذكر الخبر أن الخرطوم البلاستيك الخاص بأنبوبة الأكسجين كان موضوعاً علي جهاز التدفئة مما أدي إلي اشتعاله واحترق جسد الطفلة الرضيعة كله، لدرجة أن الممرضة خرجت من الغرفة وهي تحمل الرضيعة مشتعلة خارج الغرفة.... إلي نهاية تفاصيل الخبر والذي انتهي بجملة «وتم تحرير محضر إداري وتولت النيابة التحقيقات». لن أحكي لكم عن مشاعري حتي لحظة كتابة هذه السطور، لأنها قد تكون بديهية واعتقد أنكم تشعرون بها أيضاً، ولكن المهم هو أنني شعرت بالغضب وبشكل لا إرادي «اتهمت الطبيبة والممرضة والنظام الطبي والعلاجي ووزارة الصحة والحكومة والعيشة وإللي عايشينها، ولا أنكر أنني حتي انتقدت موقع الخبر وقلت في نفسي: إزاي ما يكونش صفحة أولي ومانشيت رئيسي، فهذا الخبر وتلك الكارثة لا تقل أهمية صحفية. «من وجهة نظري المتواضعة» عن أي خبر يتصدر الصفحة الأولي... محدثة نفسي أن هذا الحادث لو كان وقع في أي بلد أوروبي أو في أمريكا لقامت الدنيا ولم تقعد. والفرق أنه في مجتمعنا... أن الدنيا كلها تقوم ويبقي مجتمعنا «قاعد ونايم وبيشخِّر» (بتشديد الخاء). قررت أن أتحدث مع صديقتي طبيبة الأطفال لأسألها عن الموقف العلمي والطبي السليم لهذا الحادث ولأعرف منها «من المسئول في مثل هذه الحالة؟». أدهشني أنني كنت أحكي لها بمنتهي الفزع عن الحادث وكأنني كنت أنتظر منها أن تصدم وتنهار، لكنها سمعت القصة وبدأت تفسر لي الموقف العلمي بمنتهي الهدوء قائلة: الدكتورة حطت البنت علي جهاز السيرفو «التدفئة» كحل مؤقت لأن فيه أوقات كتير بيجي لنا أطفال محتاجين حضانة ولو مفيش واحدة متاحة بنحط الطفل علي جهاز التدفئة، بس ده مش بديل للحضانة، دي دفاية عادية بس مخصوصة للأطفال وزيها زي أي دفاية بتسخن، لما خرطوم الأوكسجين إتحط عليها ساح واشتعل، وعمل المشكلة دي، بس ده إهمال من الممرضة، كان لازم تاخد بالها!!! وأكملت صديقتي حديثها عن المشاكل الكثيرة المتعلقة بالحضانات وعدم توافرها وضرورة إيجاد حلول سريعة بديلة و ليست مؤقتة.... انتبهت قليلاً لحالتي التي جعلتني لا أريد سماع ما تقوله صديقتي والذي ربما يكون هو الأهم، لأنه المفسر لهذا الواقع البشع بكوارثه وحوادثه التي يدفع ثمنها أحياناً أطفال أبرياء لم يعرفوا شيئاً عن الحياة سوي أنهم صرخوا صرخة استقبالهم لحياة منذ أيام وربما ساعات!!. ويبقي السؤال... هل سنسمع شيئاً عن هذا الحادث.. أغلب الظن لا.. حتي وإن تعرضت له أي وسيلة إعلامية سيكون مجرد متابعة سريعة، ويبقي ملف احتراق الرضيعة التي - لا نعرف حتي اسمها أو التي لم يسمها أهلها بعد - ملفاً مفتوحاً أيضاً بجوار ملفات هذا المجتمع «الخربان المسكين». أي دفاع ذاتي هذا الذي أحاول تحصين نفسي به للإفلات من الشعور بالوجع من كثرة مصائب مجتمعنا؟ تذكرني حالتي تلك - والتي أظن أنها ليست شعوراً فردياً - بكلمات الشاعر الجميل مجدي نجيب عندما كتب عن وجعه بعد أحداث قانا وقد كتب قصيدة تقول بعض أبياتها: «ما تتحرق بيروت وناس بيروت والذكريات، ما يحرقوا الأطفال وشجر التوت والأمسيات ما يحرقوها، يولعوها، يدفنوها ويدفنونا...، ما إحنا نستاهل نتعجن بالمعجنة ونموت». هناك شعوب يحترق ناسها وأطفالها بنيران العدو.. وهناك شعوب يحترق أطفالها وناسها وأهلها بنيران الفساد والإهمال والخراب و....... هو إحنا نستاهل الحرق؟!!!