تكرمت إحدى دور النشر العالمية وطلبت منى تأليف كتاب عن ثورة يناير، كان هذا بعد تخلى مبارك بأسبوع فقط، يومها بدأت كتابة ما أظن أنه وثيقة سياسية روائية مهمة عن تاريخ عشته، وكان لى شرف المشاركة فى صنع مشاهد رئيسية فيه، بدأت فصول الكتاب من صباح يوم 25 يناير، وعكفت على نسج كل تفاصيل الأحداث التى حضرتها مشاركا أو شاهدا (لم تكن مهمتى أيام الثورة هى القعدة والإفتاء فى التليفزيون مذيعا أو ضيفا) حتى وصلت إلى يوم 29 يناير، وقد أنجزت كتابة قرابة ستين ألف كلمة، لكن هاجمتنى فى هذه الفترة مهام ثقيلة لإطلاق قناة فضائية، هى أول قناة يملكها إعلاميون فى الوطن العربى، ورأسمالها أربعة وخمسون ألف جنيه فقط! والموافقة على العرض الكريم من الناشر الكبير، إبراهيم المعلم، لتأسيس ورئاسة تحرير هذه الصحيفة، التى تعتبر نفسها صحيفة خرجت من ميدان التحرير، حيث تسعون فى المئة من محرريها كانوا من معتصمى الميدان خلال الثمانية عشر يوما من عمر ثورة يناير، وحيث أنا أقل محرريها ثورية!! استغرقتنى هذه المهام عن استكمال الكتاب، ودار النشر تلح وتضغط بكرم، ثم أشفقت على اتفاقنا، فطلبت منى كتابا يجمع مقالاتى قبل الثورة، لحين استكمال كتابى عن الثورة، أخيرا أرسلت لها كتابى (الطريق إلى يناير)، وكتبت فى مقدمته: «كنت الوحيد ربما فى مصر الذى يحرص كثير من القراء والمواطنين حين يلتقون بى مصادفة أن يصافحونى بحرارة، يثنون علىَّ وعلى كتاباتى، ويسجلون إعجابهم بشجاعتى وبآرائى وأفكارى التى أنشرها فى الصفحة الأولى للجريدة، التى كنت أترأس تحريرها، ثم يؤكدون لى أنه لا فايدة! لم أكن أفهم هذا الحرص الشعبى على تثبيط همتى.. تماما كما لم أكن أعرف لماذا يقابلنى كثيرون عابرون فى طريق، أو فى ندوة أو من نافذة سيارة تمر بجوارى، أو على باب سينما، حيث يكتشفون وجودى بعد إضاءة القاعة، فيسألوننى بهمة طالب، وجد واضع أسئلة الامتحان فى وجهه: - هل تظن أن هناك أملا؟ أنا أكتب الآن عن تفاصيل عشتها بلا مبالغة مئات المرات على مدى ست سنوات منذ عام 2005 وحتى ظهيرة 25 يناير 2011. كتبت أكثر من ألف مقال (مقال يومى لمدة ثلاث سنوات، ومقال أسبوعى لمدة خمس سنوات). ونشرت بعضها فى كتب ثلاثة هى: «كتابى.. مبارك عصره ومصره»، و«لدى أقوال أخرى»، و«تاريخ المستقبل»، كل سطر فيها يقول للغرابة كل ما قاله الآخرون متأخرين جدا، وبعد سقوط الرئيس مبارك شخصا ونظاما! والطريف أن ناشرا طلب منى كتابا يجمع مقالاتى التى لم أكتب فيها سطرا واحدا عن الرئيس مبارك، وسعدت بالفكرة فعلا، ووضعت عنوانا للكتاب هو (ولا كلمة عن الرئيس)، وبدأت أجمع المقالات فلم أجد من بين أكثر من ألف مقال إلا نحو خمسين مقالا فقط، ليس فيها نقد وهجوم أو معارضة أو ذكر لمبارك، ولم يصدر الكتاب طبعا! هل كانت شجاعة منى؟ لا أعتقد، بل كنت طول الوقت أقول إننى أقوم بشغلى وأمارس مهنتى، ليس فى الأمر لا بطولة ولا رغبة فيها ولا سعيا لها! ورغم خمس وستين قضية تم رفعها ضدى فى المحاكم، ورغم ذهابى إلى محاكمات القضاء وقاعاته عشرات المرات، ورغم الحكم على شخصى فى أربع محاكمات منها بالسجن! فإننى لم أتصور أبعد من أننى أتحمل متاعب مهنة البحث عن الحقيقة والدفاع عن الحرية فى بلد ديكتاتورى، ولم أطلب، كما لن أطلب جزاء ولا شكورا من أحد، لا أيامها ولا الآن ولا أظن مستقبلا! هذا الكتاب الذى بين يديك يحمل عددا من مقالاتى التى سبقت الثورة بشهور تحديدا من أكتوبر 2010 وحتى مقالات كتبتها خلال ثورة تونس، وستحتاج حتما أن أقسم لك بالله العظيم على أنها فعلا مكتوبة قبل الثورة من فرط ما فيها من نبوءة تصل إلى حد اليقين بما هو كان حادثا حقا فى مصر، وما سيجرى فيها، وما رأينا أثره وآثاره منذ 25 يناير (يمكن طبعا العودة إلى موقع جريدة «الدستور» على الإنترنت والتحقق من أصول هذه المقالات وتواريخها كى تطمئن إلى كاتبها وتقر عينا!). لا أحب طبعا أن أقول إننى زرقاء يمامة، لكن لا أمانع لو قلت أنت ذلك. ثم هناك المقالات التى نشرتها بين نهاية عام 2009 وأكتوبر 2010 وذلك فى الجريدة التى أسستها مع الناشر الكبير والصديق عصام فهمى، ورأست تحريرها حتى تم فصلى فى أكتوبر 2010 من مالكها الجديد، فى صفقة جامل بها النظام بالعصف بى وبجريدة «الدستور»، وأهداها إلى مباحث أمن الدولة، وكانت نعم الهدية! الحقيقة أننى لا أحمل ضغينة لهذا الرجل الذى لا يمكن أن أزنه فى واقع السياسة بمثقال حبة من خردل، لأنه تفضل علىَّ بفعلته، فجعلنى متفرغا لليوم الرائع 25 يناير، ثم كل ساعة تلت هذا النهار، حيث كنت هناك فى ميدان التحرير. يبقى أنه فى نهار 25 يناير وفى قلب ميدان التحرير وسط مظاهرات بواكير الثورة كان المئات من المتظاهرين يصرخون فى وجهى بجملة واحدة «يوم له صبح يا أستاذ إبراهيم». كان هذا بالضبط عنوان مقالى الذى نشرته قبل أيام من فصلى من الجريدة.. لقد كان الطريق إلى يناير طريقا طويلا لم أمش فيه وحدى طبعا!».