أرتاد معرض القاهرة الدولي للكتاب منذ أن كان يُنظم في أرض المعارض بالجزيرة التي أصبحت الآن «دار الأوبرا»، وشهدت صعوده عبر السنوات. وفي الوقت الذي كان يشارك فيه عدد قليل من الناشرين، أصبح يشارك فيه الآلاف منهم الآن. وبناء علي ذلك أستطيع أن أقول: إن معرض القاهرة هذا العام أكثر تنظيما عنه في السنوات الماضية، خاصة فيما يتعلق بانحسار ظاهرة سلبية هي التلوث السمعي الذي كان يصاحبه كل عام، من أولئك الذين حوَّلوا المعرض إلي سوق لبيع شرائط التسجيل. ولكن من الظواهر اللافتة في المعرض هذا العام انخفاض العناوين الجديدة لدي الناشرين العرب، ويرجع ذلك إلي عدة أسباب حسب استطلاع آراء العديد منهم، أولها: أن بعض الناشرين مثل دار الآداب آثرت السلامة ولم تأت معها بالكتب التي يمكن أن تثير الجدل وقد قال لي نبيل نوفل- مدير جناحها- إنه لم يجلب معه رواية «اسمه الغرام» لعلوية صبح بعدما اعترضت الرقابة المصرية عليها عندما استوردتها إحدي المكتبات المصرية، نفس الأمر مع رواية «مسك الغزال» لحنان الشيخ التي تعترض عليها الرقابة أحيانا وتسمح بها في أحيان أخري. أما السبب الثاني فهو: أن موعد الشحن لمعرض القاهرة متقدم زمنيا، حيث إن معظم الكتب الجديدة التي عرضت في معرض بيروت في ديسمبر الماضي لم تعرض في معرض القاهرة، فخالد المعالي- مدير دار الجمل- لم يأت معه بحوالي 8 عناوين جديدة، وإن عرض العديد من الأعمال المثيرة للجدل علي رأسها أعمال المفكر الإيراني عبد الكريم سروش الذي ترجم له 6 أعمال منها «الإسلام والعلمانية»، و«بسط التجربة النبوية» وغيرهما. والطريف أن نفس الأعمال صدرت أيضا عن دار الانتشار العربي لنفس المترجم. والداران الجمل والانتشار معروفتان بنشر الكتب المثيرة للجدل، ففي العام الماضي نشرت الانتشار كتاب «المختار من قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور» للقاضي التيفاشي، فردت الجمل هذا العام بنشر قطب السرور نفسه، وتتنافس الداران علي نشر أعمال الكاتب السعودي الراحل عبد الله القصيمي. وثالث الأسباب يرجع إلي هجوم المكتبات المصرية الكبري علي المعرض في أول أيامه وشرائها كل النسخ المعروضة من الكتب الجديدة، ففي ثاني أيام المعرض نفدت جميع نسخ كتب السلسلة السينمائية التي تصدرها وزارة الثقافة السورية بعدما قامت مكتبة بدرخان بشرائها جميعا، ونفدت معظم عناوين كتب المنظمة العربية للترجمة خاصة تلك التي صدرت في نهاية عام 2009 وبداية 2010، وهو ما جري مع العديد من الناشرين العرب الذين أصبح منظرهم المألوف هو قيامهم ليس بعرض الأعمال وإنما وضعها في كراتين وتجهيز الفواتير الخاصة بها للمكتبات التي قامت بالشراء. ونستطيع القول إن صناعة الكتاب في مصر تشهد انتعاشا، ليس بسبب دور النشر الجديدة، ولكن لأن الدور العريقة نشطت في عملية النشر، وأصبحت تعتمد علي معايير علمية وتسويقية جيدة، وأقصد بالدور العريقة كلاً من دار الشروق، والدار المصرية اللبنانية، ودار نهضة مصر، إضافة بالطبع إلي أن هناك دوراً أخري استعادت نشاطها بعشرات العناوين مثل مركز المحروسة، ومكتبة الشروق الدولية ودار ميريت، ودار رؤية. يضاف إلي ذلك أن الدور المصرية ذات الطابع الرسمي مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، والمركز القومي للترجمة، ودار الكتب والوثائق ومركز الأهرام للترجمة والنشر، أصبحت تُخرج كتبا مهمة من الناحية الموضوعية وذات إخراج جيد علي صعيد الشكل، وكل ذلك أعطي دفعة لصناعة الكتاب في مصر جعلته يصمد في مواجهة الكتب المنشورة في كل من الإمارات والسعودية ولبنان، والتي كانت تهدد صناعة الكتاب في مصر. والدليل علي أن صناعة الكتاب في مصر لم تتراجع أن هناك عشرات الكتَّاب العرب يسعون إلي نشر أعمالهم عبر دور النشر المصرية كذلك فإن هناك دور نشر عربية تسعي إلي النشر المشترك مع الدور المصرية، وهناك مواقع إلكترونية ومحطات تليفزيونية تقوم بنفس الأمر، مثل الكتب التي تصدر بالتعاون بين موقع إسلام أون لاين وأكثر من دور نشر مصرية وأيضا التعاون بين قناة الجزيرة ودور أخري حول نفس الأمر. ولكن المشكلة الأكبر التي تهدد صناعة الكتاب في مصر تتعلق بالحريات المتاحة لكل من المؤلف والناشر، وقد شهد معرض هذا العام حادثين كاشفين يتعلقان بهذا الأمر، الأول: هو تداعيات مصادرة رواية إدريس علي «الزعيم يحلق شعره» حيث تمت مصادرة الرواية والتحقيق مع الناشر، وملاحقة الكاتب في الوقت الذي تحتفل فيه الدولة بعيد الكتاب، وبرعاية من رئيس الجمهورية نفسه. وقد تمت كل هذه الإجراءات دون سند من قانون، الأمر الذي يعني أن صناعة الكتاب أصبحت مهددة، في الوقت الذي تسعي فيه هذه الصناعة إلي المحافظة علي كيانها كأحد عناصر القوة الناعمة لمصر في مواجهة منافسة شرسة، ومن ورائها أموال طائلة. أما الحادث الثاني: فهو تثبيت حكم تغريم مجدي الشافعي مؤلف رواية «مترو» ومصادرة الرواية ذاتها، وهو ما يعني أن البيئة القانونية لدينا بها عوار يحد من حرية التعبير، وبالطبع فإن هذا العوار يؤثر في صناعة الكتاب في مصر. وبمناسبة المناخ المتعلق بحرية التعبير، لاحظنا أن اتحاد الكتاب أدان الإجراءات الأخيرة المتخذة ضد رواية إدريس علي، ولكننا لم نسمع صوتا من إتحاد الناشرين. والمؤسف في هذا المجال أنه في بداية المعرض وعند الحديث عن منع الرقابة بعض المؤلفات، صرح ناشر وعضو في مجلس إدارة اتحاد الناشرين بتصريح يؤيد المصادرة بل يتهم الكتَّاب والمؤلفين بأنهم الذين يدَّعون مصادرة أعمالهم من أجل ضمان رواجها. وعلي السادة المسئولين أن يدركوا أن معرض الكتاب له وظيفتان بالنسبة للثقافة والمثقفين، الأولي: هي تأمين الكتب للقراء عبر عرضها في مكان واحد بأسعار أرخص، وهذا الأمر يؤدي إلي تأسيس مجتمع قارئ علي المدي البعيد، خاصة أن زبائن المعرض ليسوا من الأفراد فقط بل هناك من يذهبون من أجل تزويد المكتبات العامة بالكتب وعلي الأخص مكتبات الكليات، والمدارس وغيرها. أما الوظيفة الثانية: فهي تتعلق بالدور الإقليمي المصري، ليس فقط عبر المثقفين العرب الكبار الذين يأتون إلي مصر في فترة المعرض من أجل لقاء زملائهم من المثقفين المصريين أو شراء الكتب، أو حضور الندوات وحفلات التوقيع، وإنما عبر الترويج لصورة مصر المثقفة التي بها حريات للتعبير، والتي تقدِّر قيمة الكتاب والمؤلف والناشر. ولكن للأسف فإن البيروقراطية المصرية تقف عثرة أمام تحقيق هذه الأهداف فيما يبدو أنها لا تدرك أهمية المعرض فيما يتعلق بالدور. وللأسف فإنه في كل عام يبح صوت المثقفين والمعنيين بصناعة الكتاب والمهتمين بالدور الإقليمي المصري، مطالبين بإزالة جميع المعوقات أمام صناعة الكتاب ولكن البيروقراطية المصرية ترفض ذلك الأمر الذي جعل التطور الحادث في صناعة الكتاب يأتي من المبادرات الفردية التي لا يمكن ضمان استمرارها في المستقبل.