كان ابني الوحيد .. وكان لأنهم قتلوه... بهذه الكلمات بدأت أميرة عبد الصبور قصة قصيرة يحمل هذا المقال عنوانَها، في آخر إصداراتها من القصص القصيرة؛ (مِن رحِِم الأحزان) ، تحكي القصة موقف أم، قتل مخبرٌ من أمن الدولة ابنها الوحيد تعذيبا في قسم الشرطة دون ذنب جناه، وأُلقيت جثته على قارعة الطريق، ونشرت الصحف ووسائل الإعلام صورتين للإبن القتيل؛ الأولى لوجهه كالبدر ليلة تمامه، والثانية لوجهه مضرجا بالدماء مهشم الفكين محطم الأسنان، ويبدو أن أميرة قد استوحت قصتها مما حدث لخالد سعيد، المهم أن الأم لم تذرف دمعة واحدة، ولم تتلق العزاء في ابنها، ومرت الأيام ولم يتلق الجاني عقابا ولا زال مطلق السراح، وعرفت الأم أين يسكن المخبر القاتل، وتربصت به وقتلته فاستراحت بثأرها واستطاعت البكاء.. والحقيقة أن هذه القصة طاردتني - على قِصَرها - بدايتُها وأحداثها ونهايتها طيلة الأيام السابقة، بالتحديد منذ بدأت محاكمة مبارك وابنيه والعادلي ومساعديه أمام محكمة الجنايات، والتهمة الأساسية هي قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير . ويعبر في خاطري كل حين مشهد الأم التي فقدت ابنها برصاص الأمن يوم جمعة الغضب 28 يناير، أو يوم الجمل 2 فبراير، فتتذكر يوم حملت به ويوم ولادته، ومرات رضاعته، وليلة ارتفعت حرارته في أعقاب التطعيم، ويوم نبتت أول سنتين في مقدمة فمه الصغير، واليوم الأول له في المدرسة، ومساعدته في عمل الواجب والدراسة وحفظ القرآن، تتذكر أيام أصبح فتى يافعا وأحب ابنة الجيران، تتذكر أيامه في الجامعة والتعب والسهر والمعاناة وجني الثمار، تتذكر يوم شبْكته ويوم خطوبته، ثم تتذكر يوم الغضب حين نزل مع زملائه إلى التحرير ولم يعد، ثم تتذكر المكالمة التليفونية التي أخبرتها أن ابنها في مشرحة زينهم، وأن عليها أن تذهب لتتسلم جثته، وتتذكر جمجمته المشوهة المعالم، المحطمة العظام برصاصة القناص، ومخه الذي تفجر خارجها، وتقرير الوفاة: هبوط حاد في الدورة الدموية...... ترى.. كيف تشعر هذه الأم حين ترى قاتل ابنها الوحيد يتمتع بالحياة، وينحني له ولابنيه ولوزير داخليته ضباط حرس المحكمة احتراما ؟ كيف تشعر حين ترى هالة التقديس التي يضفيها النظام على القاتل الرئيس ؟ أي مرارة في حلقها حين ترى المتهم الرئيس يحضر إلى قاعة المحكمة بالهليكوبتر وسيارة الإسعاف المكيفة المجهزة؛ بينما ابنها الوحيد لم يجد من يسعفه أو يقدم له يد العون في جمعة الغضب أو يوم الجمل ؟ ماذا تفعل حين ترى الابتسامات والتحيات المتبادلة بين ابني الرئيس والوزير وضباط الحرس الذين يخلون لهم الطريق خارج المحكمة ؟ كيف تشعر حين ترى قاتل ابنها لا تزال تحكم فلوله، ولا يزال زبانيته وربائب فساده ونعمته يسعون لإثبات براءته ؟ براءته من ماذا ؟ من مقتل ابني ؟ إن ثقافة الثأر ثقافة متأصلة في نفوس الناس جميعا، وإن أحس ذوو الشهداء وضحايا الثورة أن القتلة والمجرمين لن ينالوا جزاءهم؛ النفس بالنفس؛ والعين بالعين؛ والجروح قصاص؛ فلا يلومن جهاز الحكم وجهاز القضاء إلا نفسيهما، لأن تحقيق العدالة لن يتأتى إلا بمعاقبة المجرم على الجرم الذي ارتكب، ليشعر الناس ألا أحد فوق المساءلة، حتى من سنت القوانين في عهده، ووُقِّعت عرائضها في قصره؛ يجب أن يعاقب على جرمه، والحقيقة الآن أن بعضا من ذوي الشهداء يعرفون قاتلي أبنائهم، والبعض الآخر لا يعلم، وهؤلاء وأولئك يريدون تحقيق العدالة بالقصاص من القاتلين ومطلقي الرصاص الحي والخرطوش على صدور ورؤوس المتظاهرين، ويتمنون أن يلتف حبل المشنقة على رقابهم لتبرد نارهم، فإن لم يتحقق لهم ما يرجون من المحاكمات السرية والعلنية وشهادات الكبار والصغار؛ إما لشطارة المحامين، أو مراوغة الشهود وزور شهاداتهم؛ أو لاستغلال نصوص وثغرات في القانون الجنائي المصري؛ فما أسهل أن يصبح القصاص انتقاما، والعدالة ثأرا، وحكم القضاء كلاما، وقانون الغاب دستورا.. وعلى نفسها جنت براقش... إسلمي يا مصر