لم يكن يشك أحد في أن الموجة الأولى من الثورة المصرية ستحقق معنى كلمة ثورة فقط وبدون الدخول في تفاصيل مزعجة. ولكن خمسة أشهر ونصف الشهر كشفت عن أن المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بحجة حماية الثورة أمعن في توجيه مجرى الأمور في اتجاهات تفرغ الثورة من مضمونها وتحافظ على البناء القديم وتعيد إنتاجه في أشكال أخرى. وما أدى إلى الموجة الثانية هو ما أطلق عليه المجلس العسكري ووسائل الإعلام التابعة له "المطالب الفئوية"، والتصميم على محاكمة أركان النظام السابق وكل من ارتكب جرائم الفساد السياسي والمالي والإداري. وكذلك ضغط أبناء ثورة 25 يناير في اتجاه وضع دستور جديد واتخاذ خطوات منطقية لصياغة منظومة تشريعية وسياسية حضارية تمهد لانتخابات ديمقراطية في دولة مدنية حديثة. كل هذه الضغوط أذهلت المجلس العسكري وبقايا النظام السابق والمنظومة الإدارية الفاسدة، وأثارت قلق الأحزاب العتيقة وتيار الإسلام السياسي(الإخوان والسلفيون)، وعصفت بأحلامهم في الحصول على نصيبهم من كعكة الثورة. لقد تصور أبناء 25 يناير أنهم أنجزوا ثورتهم، وتصور المجلس العسكري أنه يتعامل مع "شوية عيال"، ورأى الإخوان المسلمون أن الفرصة التاريخية جاءتهم على طبق من ذهب. وشرع كل عنصر من هؤلاء في حسابات المكسب والخسارة ونصيبه المقبل من الكعكة. خلال خمسة أشهر ونصف الشهر لم ينفذ المجلس العسكري أيا من مطالب الثورة بشكل حاسم وقاطع ونهائي. واستمر في لعبة التسويف وأنصاف الحلول، لأنه بالفعل لا يريد ذلك نظرا لاعتماده أجندة مختلفة تماما عما يتحدث عنه في بياناته (وتحديدا خلال فترة الموجة الأولى). وهكذا ظل مبارك بدون محاكمة، وقامت بعض المحاكم بإبعاد التهم عن الكثيرين من أركان النظام السابق، وتم ترقية عناصر تنظيم أمن الدولة المتهمين بقتل المصريين قبل الثورة وأثنائها، وظلت وسائل الإعلام تعمل بنفس الوجوه والبرامج والمناهج التي تخدم مشروع المجلس العسكري. وتم تشويه المطالب الاجتماعية لملايين العمال والكادحين من أبناء الشعب المصري ووصفها بالمطالب الفئوية. كما واصلت أجهزة الأمن عملها بنفس العقيدة السابقة كشكل من أشكال العقاب تارة والانتقام تارة أخرى من المصريين. في أثناء ذلك عملت وسائل الإعلام التابعة للنظام العسكري على تشويه نشاطات أبناء 25 يناير وتفريغ جهودهم من مضمونها وتسفيه وسائل احتجاجهم، وفي الوقت ذاته كان المجلس العسكري ينظر إلى تجارب كل من اليمن وسوريا وليبيا التي نجحت أنظمتها في خلق شكل من أشكال الصدامات الأهلية، ما شجع على الدفع بفئات معينة إلى ميادين مثل مصطفى محمود وروكسي، ومضاعفة عدد البلطجية ومخبري النظام السابق والمستفيدين من المنظومة الإدارية القائمة لإعادة التوازن إلى كفة الثورة المضادة. والهدف من ذلك هو إقناع الرأي العام العالمي والإقليمي والأغلبية الصامتة أن النظام السابق وامتداده المتمثل في المجلس العسكري الحاكم في مصر لهم أيضا مريدوهم وأنصارهم، وأن من يتظاهر أو يدعو لمطالب فئوية عدد قليل يريد تدمير اقتصاد مصر وتشويه "الثورة البيضاء". لا شك أن النظام العسكري الحالي في مصر يشعر بالعار والغبن والضعف لأن أبناء 25 يناير تمكنوا من الإطاحة برأس النظام السياسي وفضح بعض أركانه خلال 14 يوما فقط، وهو النظام الذي كان الغرب والشرق يعتبره أرسخ من الأهرامات. ولا شك في أن النظام العسكري الحالي يعتبر نفسه جزء من النظام السياسي الذي انهار خلال أسبوعين. كل ما في الأمر أن المجلس يحاول قدر الإمكان التقليل من رقعة الفضائح، وبالذات المرتبطة بالفساد. فتارة لا يعلن عن أي شيء بحجة أن ذلك يضر بالأمن القومي، وتارة أخرى يفتعل المشاكل ويوزع الاتهامات المجانية ليشغل الرأي العام عما يدور حقيقة في أروقة ودهاليز وأنفاق مبانيه وثكناته ومصالح بعض أفراده التي لا شك أنها ارتبطت بطريقة أو بأخرى بالمنظومة السياسية الفاسدة. كل ذلك كان من شأنه دفع الأمور إلى موجة ثانية من الثورة والتي بدأت ببيان اللواء الفنجري الذي هدد فيه المصريين عموما، وأبناء 25 يناير على وجه الخصوص، بحجة أن هناك مؤامرات تحاك ضد مصر. غير أن هذه الموجة لم تتعد الأسبوع الواحد، إذ بدأ المجلس العسكري يكشف عن وجهه الحقيقي. وفي الوقت ذاته يواصل الإخوان وبقية عناصر تيار الإسلام السياسي لعبتهم المفضلة، بالرفض تارة، وبالبروبجندا تارة ثانية، وبمداهنة المجلس العسكري تارة ثالثة. فهم يتعاملون مثل الطفل المدلل. ولكن ذلك لن يطول. خلال أسبوع الموجة الثانية أظهر الإخوان المسلمون وجوها متعددة ومتناقضة تصب في مجملها في رصيد العلاقة مع المجلس العسكري، وإعداد أنفسهم لتولي السلطة في مصر، واستعداء النظام العسكري والأمني ضد أبناء 25 يناير. وفي الوقت نفسه تم إهمال القضايا الأساسية والمطالب الجوهرية للثورة بعد تشويهها بحملات إعلامية رخيصة ومتهافتة، واستعداء الأغلبية الصامتة والمجلس العسكري من جانب تيار الإسلام السياسي الذي يتعجل نصيبه. منذ نهاية الموجة الأولى وخلال الموجة الثانية نضجت فكرة تحالف الإخوان مع المجلس العسكري. ومما زاد من أهمية هذه الفكرة التنسيق الأمريكي مع الإخوان والذي فهمه الإخوان بأنه ضوء أخضر للمزيد من فتح القنوات سواء مع المجلس العسكري الحاكم في مصر أو مع الولاياتالمتحدة وحلفائها. فكانت معركة التخوين التي أدارها الإخوان المسلمون والمجلس العسكري ضد التيارات السياسية والمدنية والأهلية والشعبية المصرية، بما في ذلك غالبية أو جميع فصائل الثورة. لكن الواضح هنا أن فكرة العمالة والخيانة لا تنطبق بأي حال من الأحوال على الثورة المصرية ومن قاموا بها وشاركوا فيها، لأن الولاياتالمتحدة والغرب كانا متجاوبين للغاية في بدايات الموجة الأولى للثورة على اعتبار أن هناك إمكانية لمحاصرة الأمور ومنعها من التفاقم والاتساع. أي تفريغ الثورة من مضمونها والحفاظ على النظام القائم بدون بعض الأفراد. ويبدو أن المجلس العسكري كان يعول أيضا على هذه الفكرة. غير أن إصرار أبناء 25 يناير في المطالبة بتنفيذ مطالب الثورة كاملة، ودخول العمال والكادحين على الخط أفقد الغرب تجاوبه الشكلي مع الثورة، وأفقد المجلس العسكري صبره. والسؤال الذي يتردد الآن: لماذا فقد الغرب حماسه تجاه الثورة المصرية؟! ولماذا بدأت بعض وسائل الإعلام التي اهتمت بالثورة المصرية في البداية في تحويل مجرى خطابها والاقتراب من خطاب المجلس العسكري والإخوان المسلمين؟! معنى ذلك أن اتهامات المجلس العسكري والإخوان المسلمين لأبناء 25 يناير بالتمويل الخارجي والخيانة والعمالة ليس له أي مصداقية، بل على العكس، يبدو أن هذه الاتهامات كيلت في الموجة الثانية من الثورة للتغطية على الضوء الأخضر الذي حصل عليه المجلس العسكري والإخوان المسلمون لإنهاء الأمر في مصر بتشكيل نموذج ما يتيح لهذين الطرفين بالذات تقسيم السلطة وفقا لأي من النموذجين الباكستاني أو التركي. إن تحالف الإخوان المسلمين مع النظام العسكري بمساعدة الولاياتالمتحدة والغرب ولد ميتا، لأن من مصلحة المجلس الآن التحالف فعليا مع الإخوان إلى أن يتم القضاء على الثورة فقط. بينما الإخوان يرون ضرورة اقتناص الفرصة التاريخية والتحالف مع أي شيطان للوصول إلى السلطة. الفكرة ببساطة تكمن في أن الإخوان لن يسمحوا للمجلس العسكري أن يقيم دولة على غرار النموذج التركي. والمجلس العسكري يفهم ذلك ويتربص بهم ليقتنصهم في الوقت المناسب بعد أن يبدأوا بالانقلاب عليه وفقا لعاداتهم التاريخية منذ ثلاثينات القرن العشرين مع الملك ومع عبد الناصر ومع السادات ومع مبارك. أما النموذج الباكستاني فلا يصلح لمصر لأسباب كثيرة ولن يفضله الغرب أو الولاياتالمتحدة، إلا إذا بقي حلف الناتو في ليبيا لأجل غير مسمى وتمكن من تقسيمها أو السيطرة عليها تماما. وكذلك إثارة القلاقل في السودان وتحويله إلى عراق أو أفغانستان. في هذه الحالة فقط قد يساعد الغرب والولاياتالمتحدة في إقامة نموذج باكستاني في مصر ما سيخدم مصالحه في ليبيا والسودن وتوجيه دفة الأمور في تونسالجديدة بما يخدم دول الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. إن تصادم المجلس العسكري والإخوان ضرورة تاريخية لا مفر منها وكلها مسألة وقت. لكن الإخوان يعولون على كونهم "الطفل المدلل" الذي يرفض هذا الشيء الآن، ويقبله بعد قليل. أو يكسر هذه الفازة أو تلك ثم يبكي ليعود إلى الأحضان بعد قليل. وفيما يتعلق بالموجة الثالثة من الثورة المصرية فقد بدأت نظريا يوم 23 يوليو 2011. ومن الواضح أن أبناء 25 يناير وجميع التيارات السياسية المصرية بحاجة إلى استراحة محارب. لقد كشف النظام العسكري عن وجهه الحقيقي في أحداث 22 و23 يوليو. وكشف الإخوان عن وجه جديد – قديم من وجوههم بتصريحات المرشد العام يوم 23 يوليو والتي استعدى فيها المجلس العسكري على كل التيارات السياسية المصرية. وكشفوا أيضا عن هذا الوجه بتأسيس حزب "الحرية والعدالة" الذي باركه وشارك فيه كل من وزير داخلية النظام العسكري ونائب رئيس الوزراء المصري على السلمي (عضو حزب الوفد) في أحد الفنادق الكبري بالقاهرة. إن أبناء 25 يناير وبقية التيارات السياسية المصرية بحاجة إلى التقاط أنفاسهم والتفكير الجدي والعميق في الخطوات التالية سياسيا وتنظيميا، لأن الثورة الآن وفي موجتها الثالثة أصبحت على المحك، وخاصة بعد أن اتضحت النوايا الإقليمية والدولية، وانكشفت الوجوه الحقيقية للنظام العسكري وتيار الإسلام السياسي. الموجة الثالثة من الثورة المصرية يجب أن تضع على رأس مهامها إسقاط النظام العسكري وتفعيل المطالب الاجتماعية ووضع دستور علماني لمصر ومحاكمة أركان النظام الفاسد، بمن فيهم أعضاء المجلس العسكري، والشروع في تغيير المنظومة الإدارية المصرية التي يعتمد عليها النظام العسكري وبقايا نظام مبارك. لقد جاء دور ملايين العمال والكادحين في تنظيم أنفسهم وأداء دورهم التاريخي. هذا الدور لا ينفصل عن دور كل التيارات السياسية المصرية الآن. فالثورة منذ مساء 22 يوليو أصبحت قاب قوسين أو أدنى من النجاح أو الفشل. والكل يعرف إلى ماذا تتحول أنصاف الثورات.