يؤكد الدكتور محمد البرادعي يوماً بعد الآخر أنه لم يكن بعيداً عن مصر وهو يمارس مسئولياته الدولية، وأنه يتابع ما يجري في مصر ويمتلك رؤية سياسية تتوافق تماماً مع ما تطرحه الحركة الديمقراطية المصرية التي تنمو وتجذب إلي صفوفها باستمرار أطرافاً جديدة وتضم أحزاباً وقوي سياسية وحركات احتجاجية ولجاناً شعبية ومنظمات حقوقية ودفاعية وشخصيات مستقلة: مفكرين وباحثين ونشطاء سياسيين. وما طرحه الدكتور محمد البرادعي مؤخراً في مقاله المنشور بجريدة «الدستور» يوم الأربعاء 27 يناير تحت عنوان (من أين نبدأ؟) يؤكد هذه الحقيقة، كما يؤكد جديته في المساهمة الفعلية في التطور الديمقراطي للمجتمع المصري. إن البرادعي بهذا الطرح مكسب حقيقي للحركة الديمقراطية المصرية ويعتبر إضافة حقيقية لها أهميتها الكبري نظراً لمكانته وسمعته الدولية، ومن يراجع البرنامج الديمقراطي المتكامل الذي تبلور في مصر في السنوات الأخيرة للإصلاح السياسي سوف يكتشف أن ما يطرحه الدكتور البرادعي في هذا المقال يأتي في هذا السياق، ويتوافق تماماً مع هذا البرنامج، ولكنه يقدم مساهمة مهمة تتمثل في الأولويات التي يقترحها للإصلاح السياسي التي لو وضعت موضع التطبيق فإنها سوف تفتح الباب مع كل خطوة نحو إنجاز حقيقي علي طريق الإصلاح السياسي، فهو يبدأ بالممكن والأسهل وهو توفير ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات البرلمانية والتي لا تتطلب سوي تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية لتتضمنه الشروط السبعة التي يقترحها في مقاله المذكور، وهي خطوة كبيرة لو تحققت فإنها يمكن أن تغير موازين القوي السياسية في مصر وتساهم في تهيئة المناخ لتشكيل مجلس شعب يعبر عن إرادة الناخبين المصريين، ثم يقترح الخطوة الثانية وهي تعديل المواد 76 ، 77 ، 88 من الدستور والتي لايمكن بدونها إجراء انتخابات رئاسية تنافسية، ولا تتطلب هذه الخطوة سوي إجراء استفتاء علي هذه المواد، وينتهي إلي الخطوة الثالثة وهي تشكيل هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يقيم نظام حكم ديمقراطياً، وبذلك تستكمل البلاد الانتقال الديمقراطي الذي طالما حلم به وناضل من أجله المصريون. هذا الترتيب المنطقي لخطوات الإصلاح السياسي الذي ينتقل من الممكن إلي الأصعب هو إضافة حقيقية لما بلورته الحركة الديمقراطية من برنامج للإصلاح السياسي، فهو دليل عمل واقعي قابل للتنفيذ يمكن أن يفتح الباب بشكل حقيقي أمام الإصلاح السياسي كلما تحققت خطوة فيه. ولكن ما يطرحه الدكتور البرادعي لا يتوقف عند حد بلورة هذا الدليل بل يتعداه إلي بعض الجوانب المهمة ومنها : أولاً : إنه عندما يتحدث عن الإجراءات السبعة المطلوبة لتحقيق نزاهة الانتخابات إنما يطرح في الحقيقة المعايير الدولية لنزاهة الانتخابات، والتي استقرت في الفكر السياسي والقانوني بالدول الديمقراطية والتي حققت ممارستها الاستقرار في هذه الدول وفتحت الباب أمام التداول السلمي للسلطة بين مختلف القوي السياسية والاجتماعية. ثانيا : وينقلنا هذا إلي حقيقة أخري أشار اليها، وهي أنه لا يمكن إجراء إصلاح اقتصادي واجتماعي مالم يتم أولاً إجراء إصلاح سياسي، حتي يستطيع الشعب أن يختار ممثليه في السلطة التشريعية بحرية فنضمن أن تأتي القوانين والتشريعات والسياسات العامة معبرة عن مصالح الأغلبية الشعبية وتتحقق العدالة الاجتماعية. وقد أثبتت التجربة أن أحلام المصريين في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني قد تحطمت علي صخرة الاستبداد والسلطوية وأنه لايمكن ضمانها إلا في ظل نظام ديمقراطي يختار فيه المصريون حكامهم بحرية. ثالثاً : ولايمكن الحديث عن حق المصريين في اختيار حكامهم وتغييرهم دورياً بحرية من خلال انتخابات نزيهة بدون أن يشارك في هذا الاختيار المصريون في الخارج، وقد أشار الدكتور البرادعي في لفتة ذكية إلي أن عدد هؤلاء المصريين المقيمين بالخارج والذين يصل عددهم إلي سبعة ملايين يماثل بالضبط أولئك الذين شاركوا في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2005 ، وهو قريب جداً من الذين يشاركون بالفعل في الانتخابات البرلمانية، وسوف تترتب علي مشاركة المصريين في الخارج نتائج بالغة الأهمية في تركيبة مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية تعكس طموح المصريين وقطاعات مهمة منهم في المشاركة السياسية، وستساهم في حل بعض الإشكاليات مثل التمثيل المتوازن في السلطة التشريعية للنساء والشباب والأقباط بطريقة ديمقراطية، وستفرض علي المرشحين مراعاة التوازن في مصالح مختلف قطاعات الشعب. رابعاً : يأتي اقتراح الدكتور محمد البرادعي بإجراء مناقشة عامة وعلنية حول مشروع الدستور الجديد تعبيراً عن وعي عميق بدور الشعب في صياغة الوثيقة الأكثر أهمية في الحياة السياسية للبلاد، وتعبيرًا عن الثقة في قدرة هذا الشعب لو توفر المناخ السليم علي الوصول إلي نتائج مهمة بالنسبة للإشكاليات العقائدية والفكرية الموجودة في مصر- علي حسب تعبيره. خامساً: ما يطرحه الدكتور البرادعي من أفكار ينسجم تماماً مع ما تقترحه القوي الديمقراطية في مصر منذ سنوات. ومن يطالع مشروع قانون مباشرة الحقوق السياسية الذي طرحه مؤخراً ائتلاف المصريين من أجل التغيير وحركة «كفاية» والذي يتضمن معايير نزاهة الانتخابات ومشروع القانون الذي طرحته أحزاب الائتلاف الديمقراطي الأربعة (التجمع الوفد الناصري الجبهة ). ومشروع القانون الذي أعدته إحدي المنظمات الحقوقية وهي المجموعة، المتحدة، سيجد أنها تلتقي معه في الضمانات السبع التي أكدها لضمان نزاهة الانتخابات بل تكاد تكون مطابقة حرفيا.ً ويأتي في هذا السياق أيضاً اقتراح الأستاذ محمد حسنين هيكل بتشكيل جبهة أمناء لوضع دستور جديد للبلاد وما طرحته الحركات الاحتجاجية عن فترة انتقالية تُطلق خلالها الحريات وتُعدل القوانين المكملة للدستور مثل قوانين الأحزاب والنقابات والجمعيات والانتخابات، وتشكيل جمعية تأسيسة لوضع دستور جديد، هذا التطابق بين ما يطرحه الدكتور البرادعي وما طرحته القوي الديمقراطية في مصر يؤكد- كما أوضحت- أن الدكتور البرادعي بمواقفه هذه مكسب حقيقي للحركة الديمقراطية المصرية، وأنه سواء ترشح لرئاسة الجمهورية أو لم يترشح يضيف الكثير بهذا الفكر المستنير والتناول الشجاع لأوضاع مصر، فأهلاً به يحتل موقعه كجندي في صفوف القوي الديمقراطية ليساهم بذلك في تحقيق أمل عزيز ضحت من أجله أجيال متتالية من المصريين.