منذ يومين سألني صديق عما سيحدث في تونس، فأجبت "مهما يحدث، فلن تعود تونس ثانية إلى ما كانت عليه قبل الأحداث الأخيرة". ولم أكن أدري وقتها بالطبع أن شعب تونس سيغير تونس، وربما الوطن العربي بأكمله، إلى الأبد، ويكتب فصلا ناصعا في تاريخ نضال الشعوب العربية من أجل الحرية والعدل. وكما قال نابغة الشعر التونسي أبو القاسم الشابي: "إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ" فعلها أحفاد ابو القاسم الشابي، تمثلوا أبيات رائعة شعره المشهورة حرفيا. دقوا باب الحرية الحمراء بدماء عشرات من شهداء الثورة البررة بدءا بالشاب المتواضع قدره بمعايير الثروة والجاه، ولكن المفعم بالكرامة والإباء (محمد البوعزيزي من "سيدى بوزيد" في الجنوب التونسي، الملتهب دوما بالإباء والكرامة، والذي أحرق نفسه احتجاجا على غلواء الحكم التسلطي وإهدار كرامته عندما صفعته شرطية بينما كان يسعى وراء الرزق بشرف من بيع الخضر على عربة يد بسيطة- ولم يكن يسرق أو ينهب أو يعيث فسادا كالطاغية وعائلته وأعوانه- وهكذا كان تمكين المرأة والنظام وصعوبة العيش الكريم بشرف في عهد الطاغية، فأوقد "سي محمد" بجسده الطاهر شرارة الثورة الشعبية). وعندما عبّر الشعب، جميعه، عن أنه، مثل "سي محمد"، يريد الحياة بحرية وكرامة، ولو دفع حياته ثمنا، وباللغة الوحيدة التي يفهمها الطغاة الجبابرة، استجاب القدر. وانجلى الليل وانكسر القيد. وواجب على جميع العرب المقهورين التعلم من شعب تونس، فَمَنْ "لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر". و"إذَا مَا طَمَحْتُ إلِى غَايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر". والدرس الأول هنا هو خطأ التهوين من شأن الأفكار في صنع حركة المجتمعات والتاريخ، ولو بدت حالمة أو مبكرِّة، فلا ريب في أن أبو القاسم الشابي، ابن الجنوب التونسي أيضا، عندما سطر هذه الأبيات الملهمات في بدايات القرن العشرين، لم يكن ليتصور أنها ستجد تمثيلا شبه حرفي لها في مطالع الألفية الثالثة، والقرن الحادي والعشرين. والدرس الثاني هو أن الطاغية بعد أن استنفذ كل محاولات القمع الباطش والتسويف الكاذب، اضطر إلى الهرب، على عجل، تحت جنح الظلام، تماما مثل ي لص دنيء يغادر مسرح جريمته عجلا ملهوفا. فاللص مهما تجبّر وفجَر يبقى في أعماقه مرعوبا وجِلا. والدرس الثالث هو أن الطاغية الهارب بجلده وربما بما نهب هو وأهله وأعوانه، لم يجد من أسياده الذين اصطنعوه، لتدمير التيار الإسلامي في تونس، بل لضرب المثل لباقي حكام "الاعتدال" العرب في كيفية تدميره، وبلغ في ذلك شأنا كبيرا وكافأه أسياده طويلا بالتغاضي عن جرائمه في حق شعبه؛ عندما حلت الواقعة، لم يجد أحدا منسادته يسمح له بتدنيس أرضه التي خدم حكامها بتفان على حساب شعبه والشعب العربي جميعا، وكان يظنها أرض الميعاد عندما تدور عليه الدوائر. ظل الطاغية الهارب يحوم بطائرته هاربا مذعورا يتلقي الرفض تلو الآخر من قِبلاته حتى لم يجد ملجأ له ولأسرته إلا نظام حكم تسلطي آخر يتشدق بحماية الإسلام ومقدساته. وجلي أن الحكم التسلطي ديدن يعلو على أي دين، خاصة لو كان ظاهريا. هذه أبرز الدروس للطغاة، والأهم أنها دروس يتعين أن تعيها الشعوب المقهورة. وقد يرى بعض الأبرياء طيب القلوب أن الطاغية يستحق الشفقة أو المغفرة باعتبار أن ما حل به عقاب كاف. ولكن عتاة المجرمين لا يستحقون مثل هذه المشاعر النبيلة. فلن يتوّج نضال شعب تونس حقا إلا بالقصاص من التشكيل العصابي جراء إهدار حياة شهداء الشعب التونسي البررة واستعادة ما نهبوه من أموال الشعب التونسي. فقط القصاص من هذا التشكيل العصابي الذي حكم تونس أطول من عقدين بالحديد والنار والفساد، على ماعاث الطاغية، هو وأهله وأعوانه، فسادا وإفسادا وقتلا للنفس في واحد من البلدان العربية الذي كان مؤهلا لأن يصبح واحة للتقدم والحرية في هذه المنطقة من العالم لولا جرائمهم الشنعاء، هذا القصاص هو الانتصار الحقيقي والنهائي لإرادة الحياة في تونس، وفي الوطن العربي بأكمله. وفي الحكمة أن "لا تحتضن تمساحا، ولو جاءك باكيا".