علي كثرة ما تم تسريبه عبر موقع ويكيليكس من وثائق فإن شيئاً مفاجئاً أو مدهشاً لم أصادفه حتي الآن. ما الجديد في الكشف عن أن حكام العالم الديموقراطي الغربي الذين يدللون القطط و الكلاب لا يأبهون لأرواح البشر طالموا كانوا من بلدان أخري و يدينون بدين آخر؟. و ما الجديد في ان حكام العالم المتعفن يتآمرون علي شعوبهم و يتحالفون مع الأعداء؟. إن الوثيقة المفاجئة بحق هي التي قد تكشف أن أحد سلاطين العالم المتقيح قد سلك سلوكاً وطنياً رفيعاً في أحد المواقف فتمسك بحقوق شعبه أو تعفف عن مد يده إلي المال العام..هذه هي نوعية الوثائق التي يصبح كشفها قنبلة الموسم، أما الأخبار الأخري المتعلقة بالهوان و الاستخذاء و الركوع للأعداء و بيع الأشقاء و الغدر بهم فإنها لا تمنح الأخ "جوليان أسانج" صاحب الموقع -فك الله سجنه- ما قد يتوقعه من إعجاب!. لكن علي أي الأحوال فإن من فضائل هذا التسريب هو توثيق المعلومات التي كنا نسمعها بشكل متناثر و كانت تجد من ينفونها بجسارة رغم وضوحها. الآن بعد تسريبات ويكيليكس لم يعد هناك من يستطيع الإنكار، لأن من يتبجح و يفعلها فإن التهكم و الاستخفاف سيكونان من نصيبه. و علي سبيل المثال فقد عشنا عمرنا كله أيام زمن المقاومة و مواجهة إسرائيل و نحن نسمع عن الحاكم العربي الذي يزور إسرائيل بانتظام و يلتقي بقادتها فينقل لهم ما يعرفه من معلومات و يتلقي منهم التكليفات..و بالرغم من معرفتنا بهذا كله فلقد كان من السهل علي أبواق هذا الحاكم أن تشكك في هذه المعلومات و تنفيها بقوة. لكن الوثائق الإسرائيلية التي يتم كشفها بعد ثلاثين سنة فضحت الرجل و أتاحت لنا أن نتأكد بما لا يدع مجالاً للعك حجم الخيانة المروعة التي تعرضنا لها!. الآن لم نعد مضطرين للإنتظار لثلاثين سنة أخري لنعرف أصدقاء اسرائيل و عملاءها حيث تكفل موقع ويكيليكس بإذاعة الوثائق الخاصة بأحداث الأمس القريب. و فيما يتعلق باللهفة و الفرحة الكبيرة التي يتلقف بها القراء حول العالم التسريبات اليومية من ويكيليكس فإنها تستدعي وقفة للتأمل، ذلك أن حق الدول و الحكومات في صيانة أسرارها هو حق أصيل يتعين احترامه لأسباب يطول شرحها، و إن اقتحام هذه الأسرار يشكل مخالفة قانونية و أخلاقية لأنه يلحق الضرر بالدولة المفضوحة و يعرض مصالحها للخطر. لكن في اعتقادي إن ما يبرر هذه الفرحة و تلك الشماتة التي يتلقي بها القاريء في الغرب الديموقراطي تسريبات ويكيليكس هو أن الجمهور هناك بات يشعر بأنه يتعرض للخديعة علي يد حكامه و أصبح يعتقد أنهم يستغلون قوانين سرية المعلومات من أجل التعتيم علي ممارسات غير نظيفة و اللعب في الظلام من خلف ظهر الشعوب. أما عن الدول الخليعة المتهتكة التي يحكمها الطغاة فإن شعوبها تتلقف نفس الوثائق بفرحة طاغية لسبب آخر و هو شعورها بأن هؤلاء الحكام الذين أوغلوا في جرائمهم يتعرضون الآن للفضح بكشف أفعالهم و تعرية مواقفهم التي طالما أنكروها، و من ثم فإنهم يواجهون الآن الحرج البالغ و الشعور بالعار، و هو الأمر الذي يسعد هذه الجماهير بالتأكيد. لكن لعل مما يبدد هذه الفرحة في مقبل الأيام ردود الفعل الباردة و البليدة التي أتوقع أن يواجه بها الحكام ما يتسرب عنهم من فضائح و مخاز. بل إنني لا أبالغ إذا قلت أنهم قد يستخدمون كل ما يستوجب إدانتهم أمام شعوبهم في الكيد لهذه الشعوب و ملء قلوب الناس بالحسرة بعد أن يقولوا لهم: نعم..نحن أنذال و منحطون و خونة..فماذا أنتم فاعلون؟.