الزلزلة التي أحدثها قرار إقصاء صحافي وكاتب متمكن وموهوب كإبراهيم عيسى واختطاف صحيفة متميزة وجريئة مثل 'الدستور' المصرية، هذه الزلزلة أحدثت تداعيات تجاوزت حدود قرار الملاك الجدد للصحيفة؛ وجاءت ضمن خطوات وإجراءات لا تتوقف كلما اتسع نفوذ مبارك الابن وزاد، ومنذ تمكنه من منصب الرئاسة الفعلية؛ وهو دائم الوقوف وراء قرارات وإجراءات تصدر عن السلطات الرسمية؛ كان آخرها قرارات وزير الإعلام أنس الفقي بمنع وتقييد قنوات مرئية (تليفزيونية) خاصة؛ تبث من القمر الصناعي المصري. وما لا تقوم به السلطات الرسمية يتولاه رجاله ومساعدوه. ينسب إليه النجاح في تقليم أظافر مثلث الرعب المعروف بشارع عبد الخالق ثروت وسط العاصمة؛ وأضلاعه مكونة من نقابتي الصحافيين والمحامين ونادي القضاء. وهو الذي مكن ذراعه الأيمن وأمين تنظيم الحزب الحاكم من اختراق انتخابات نقابة المحامين الأخيرة، وساعده على خصخصة النقابة لحسابه، وبقوته رصدت الاعتمادات المالية لتمرير مرشح الحكومة لمنصب نقيب الصحافيين، وأزاحت لجنته؛ المعروفة باسم لجنة السياسات، وبمعاونة وزارتي الداخلية والعدل، أزاحت تيار الاستقلال عن إدارة نادي القضاة. وكل هؤلاء يحاصرون جماعة الإخوان المسلمين ويلاحقون أعضاءها وقياداتها. وجعلوا حزب الغد يدفع ثمنا باهظا؛ جراء إقدام مؤسسه على منافسة حسني مبارك في انتخابات الرئاسة الماضية؛ حرقوا مكتبه ومقر الحزب، وأتوا عليه في وضح النهار، وفي وجود الشرطة وقوات المطافي. واغتالوا زعيمه سياسيا ومعنويا وعائليا. وجرى مثله لحزب الوفد ورئيسه الأسبق. اشتعلت النار في المقر مع تبادل لإطلاق النار داخله للأسباب ذاتها. وبتحريض منه تُطارد قوى التغيير وجماعاته الناشطة؛ كفاية، و6 ابريل، و9 مارس، وغيرها. كان من الطبيعي ألا تفلت 'الدستور' ولا مؤسسوها من الفخ، وألا تنجو من ممارسات وحشية ولاأخلاقية ضدها.، سبق وطالت مجدي أحمد حسين وصحيفة 'الشعب'، ومن المتوقع أن تطال وائل الإبراشي رئيس تحرير 'صوت الأمة' مرة أخرى. وحصيلة انجازاته السوداء وأعماله المشينة أشعرته بتضخم الذات، فبالغ في توحشه وتطرفه وعنفه، وعمل على حشد كل ما تحت يده من طاقات وإمكانيات للإجهاز على المنابر غير المهادنة وغير القابلة لا بالتمديد ولا بالتوريث، والرافضة للتبعية والصهينة. أعلن حربه، وهو مطمئن إلى قرب إعلان نصره النهائي على الشعب الأعزل، وتجريده من أي ملمح للقوة أو وسائل التعبير عن الرأي. وعلى الرغم من ادعاءات البراءة من دم 'الدستور' وصحافييها؛ فأنا لست من المدرسة التي تفصل بين المُلاك الجدد والأرحام التي نموا داخلها، أو تعزلهم عن المحاضن التي رعتهم وتربوا فيها. كان الحبل السري الرابط لهذه الأرحام أيديولوجيا؛ هو 'الليبرالية الجديدة'، وكانت المحاضن صناعة 'المصريين الجدد'؛، بلغة فهمي هويدي. وترتب على ذلك ظهور جيل مستنسخ، يردد مقولات لا معنى لها باسم 'الفكر الجديد'؛ لكنها جسدت الزواج غير الشرعي بين المال والسياسة، وامتد فيما بعد إلى الإعلام والصحافة، بما لها من تأثير في الرأى العام وتوجيهه. كثير من المخضرمين يذكرون ثروث أباظة وقصته القصيرة 'شيء من الخوف'، وتحولها إلى فيلم على يد المخرج حسين كمال في نهاية ستينات القرن الماضي. دارت القصة في قرية مصرية خضعت لشخص اسمه عتريس؛ متجبر وباطش، وحياته أقرب إلى قطاع الطرق. استسلمت له القرية ولمطالبه وإتاواته. تصدت له فؤادة؛ حبيبة طفولته. وفتحت الهويس الذي اعتاد على إغلاقه.. إمعانا في إذلال الفلاحين وكسر إرادتهم؛ والهويس لمن لا يعرف؛ واحد من بوابات ضخمة تقام على مخارج المياه من فروع النيل والرياحات والترع والمجاري المائية الكبيرة، ومن خلالها تقنن حصص مياه الري الموزعة على الأراضي الزراعية، بشبكة من الترع والجداول والمجاري المائية الأصغر. وغلق الهويس يعني قطع شريان الحياة عن الأرض والنبات والإنسان والحيوان. لم يقو عتريس على قتل فؤادة لحبه لها. ورأى الحل في الزواج منها. ووافق الأب الطيب الضعيف، الذي لا يعصى لعتريس أمرا. وتم الزواج بشهود زور، ولم يقبل شيخ القرية بالزيجة الباطلة، ولما احتج دفع الثمن حياة ابنه. وخرجت القرية عن بكرة أبيها تشيع الشاب المغدور إلى مثواه الأخير؛ واتجه موكب الجنازة إلى بيت عتريس مرددا نداء الشيخ في نفس واحد 'زواج عتريس من فؤادة باطل'. وأربك الصوت الهادر قدرة عتريس على التصرف. وعجز عن حماية نفسه. ولم يستطع الهرب من حصار النار التي أضرمها الفلاحون في منزله وهو بداخله. وكانت نهاية الفيلم هي نهاية عتريس؛ في رسالة واضحة تقول إنها نهاية أي عتريس مهما طغى وتجب!. عتريس الرمز يقبض على مصائر البلاد، ويذل العباد. وفي حالتنا الراهنة أراد شراء 'الدستور'؛ 'فؤادة' زمننا الحاضر. فقد كافحت لفتح كل الأهوسة؛ لتروي أرضا تصحرت، وترطب قلوبا تحجرت، وتغذي عقولا تيبست. كان ابراهيم عيسى ذلك الشيخ الذي كان صرخ اثباتا لبطلان زواج عتريس من فؤادة، ويعلن على رؤوس الأشهاد حاليا بطلان زواج المال بالسياسة. ولم يختلف أبناء 'الدستور' عن فلاحي تلك القرية، والفرق أنهم لم يتمكنوا بعد من إضرام النار في منظومة الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار. عتريس ليس شخصا من شحم ولحم. إنه تجسيد لكل علاقة آثمة؛ أشبه بزنى المحارم؛ تجمع بين المال وأهل الحكم والسياسة. وعتريس العصر هو من صنع تلك الغلالة السوداء من الحقد والكراهية والعنف والتطرف والفتنة؛ غطت مصر من أقصاها إلى أقصاها. وإذا كان ما حدث لابراهيم عيسى، وما جرى ل 'الدستور' عمل غير بريء؛ فلماذا يريدوننا أن نصدق دفوع محامي السلاطين عن براءتهم، ومن بين هذه الدفوع أختار بعض ما كتبه جمال عبد الجواد، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام؛ نصير التطبيع، وسند رجال الأْعمال، ومؤيد اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز)، ومع دورها في صهينة المنتجات المصرية، خاصة في مجالي الغزل والنسيج. يشيد عبد الجواد بعصامية الملياردير السيد البدوي؛ مشتري 'الدستور' مع شريكه رضا إدوارد. وادعى أنه بث روحا جديدة في حزب 'الوفد'. ورد ذلك في مقاله بصحيفة الأهرام المسائي (عدد 19/ 10). ووصفه بأنه سياسي قبل أن يكون رجل أعمال، وعضو في حزب الوفد منذ سنة 1983، حين كان يمتلك صيدلية واحدة. وعزا امبراطوريته في مجالات الأدوية، ومستحضرات التجميل، والإعلام والصحافة، وشبكة تليفزيون الحياة الواسعة الانتشار؛ عزاها إلى هذه العصامية. ولم يبق إلا القول بأنه بناها 'من مصروفه' أخذا بالقول المصري الساخر عن الثروات مجهولة المصدر؛ أي أن تكوينها تم من مصروف جيبه! وأول من أُطلِق عليه ذلك القول كان علاء مبارك بثرواته الطائله، واعتبر عبد الجواد امبراطورية البدوي ظاهرة اجتماعية سياسية! وجزءا من النسيج الاجتماعي المصري وليست نبتا شيطانيا من وجهة نظره! أما رضا إدوارد فنتركه يعرفنا بنفسه؛ نقلا عن حديثه إلى 'المصري اليوم' يوم الثلاثاء الماضي. يقول إنه رجل سياسي وعضو بالهيئة العليا لحزب الوفد، وله علاقة وطيدة بصحيفة الحزب، فضلا عن عشقه للصحافة؛ ويرى في 'الدستور' صفقة رابحة. وإذا تمت إدارتها بشكل جيد فسوف تتجاوز أرباحها خمسين مليون جنيه، (ومثل هذا الكلام يحمل رائحة اتفاق يدر أضعاف ما دفع فيها، والشرط هو تغيير إدارتها) وادعى موافقته على معظم مطالب الصحافيين باستثناء بند واحد هو تشكيل مجلس الإدارة، حيث أنه ليس من حق المحرر التدخل فيه، وعلينا أن نضع تحت هذا البند مئة خط. وربطه بإصراره على عدم عودة ابراهيم عيسى وابراهيم منصور. وشبهة تواطؤ المجلس الأعلى للصحافة، ورئيسه صفوت الشريف قائمة، من خلال التصريح بطبع 'الدستور' دون وجود رئيس تحرير، مضفيا شرعية على إصدارات صدرت بالمخالفة للقانون. وذكر إدوارد في حديثه أنه أرسل إخطارا رسميا للمجلس الأعلى للصحافة باسم رئيس التحرير التنفيذي الجديد. بجانب وجود مخالفات قانونية أخرى، تتعلق بالاستحواذ على الصحيفة. والقانون لا يسمح بملكية أكثر من عشرة في المئة للمساهم في ملكية الصحيفة. وهذا لو حدث في صحيفة أخرى ما كان القانون قد أُعطِيَ هذه الأجازة (العطلة) من قبل رضا إدوارد، والصلاحيات فوق القانونية تمنح دائما وأبدا لأهل الحظوة؛ المؤيدون من صاحب لجنة السياسات، والمدعومون من ناظر الداخلية، والمشمولون من المجلس الأعلى للصحافة. وما كان هذا ليحدث مع جريدة 'الشعب' الموءودة، ولا مع صحيفة 'صوت العرب' المعطلة، في عصر يصفه صاحبه بأنه لم يقصف فيه قلم، ولم تغلق فيه صحيفة! والسيد البدوي بعد أن باع نصيبه لرضا ادوارد، صاحب إمبراطورية التعليم والمدارس الخاصة! وضع الجميع في حيرة ومنهم من بدأ يسأل من هو عتريس إذن؟ وبعد هذا يحلو لنا وصف الصحف الخاصة. أي صحف رجال الأعمال. بالصحف المستقلة، فهل هذا وصف صحيح؟ وهذا له حديث آخر. المقال منشور في القدس العربي يوم 22 أكتوبر 2010