قبل تسعة وعشرين عاما اّغتيل الرئيس الراحل «أنور السادات» وسط رجاله وفي يوم عرسه بينما كان حاضراً العرض العسكري الذي تنظمه القوات المسلحة احتفالا بذكري انتصار أكتوبر العظيم.. انقطع الإرسال التليفزيوني فجأة وسُمع دويّ طلقات الرصاص، وخرج علينا المذيع ليعلنَ انتهاء العرض العسكري ومغادرة الرئيس ساحة العرض بسلام في الوقت الذي أدرك فيه كلُّ من كان يتابع الشاشة الصغيرة أن في الأمر شيئا جَللا.. قبل كل تلك السنوات اغتيل السادات بالرصاص الغادر فلم يَنَل منه هذا الاغتيال وإنما ساهم في تخليد ذكراه إذ اختار لها عيد النصر موعداً فاستشهد السادات مرتديا بدلة الزفاف العسكرية وعلي أنغام طلقات الرصاص وأزيز الطائرات، ولكنه بعد ما يقرب من عقود ثلاثة عاد ليغتال من جديد من خلال «فنجان قهوة» قيل إنه قد أعده بنفسه وقدمه للرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبيل وفاته.. لم يقل الأستاذ «محمد حسنين هيكل» الذي روي قصة فنجان القهوة «القاتلة» أن السادات ضالعٌ في اغتيال عبدالناصر، بل إنه حين ألقي بتلك القنبلة العنقودية حرص علي تأكيد عدم وجود علاقة بين فنجان القهوة ووفاة ناصر وعدم وجود أدلة مطلقا علي علاقة السادات بهذه الوفاة، ولكن القنبلة - وهو بالتأكيد ما كان يعرفه الأستاذ هيكل مقدما- كانت قد بدأت في الانفجار تباعا فأحدثت دويا هائلا وأصابت من أصابت ونجا من شظاياها من نجا، ولكنها في النهاية استهدفت السادات رمزا ورجلا وتاريخا.. لم يُفلح إخوان خالد الإسلامبولي في اغتيال بطولة السادات وإن اغتالوا جسده، ولكن الكلمات الفتاكة عادت لتنطلق من جديد بعد كل تلك السنوات محاولة اغتيال ذكراه وسيرته.. خلّده الرصاص واغتالته الألسنة التي طعنت معه أيضا ذكري الزعيم البطل عبد الناصر وذكري انتصارنا العظيم. لم يكن السادات نبيا لاينطق عن الهوي ولكنه كان بطلا أحَبَّ وطنَه وأخلص له كما أخلص سابقه.. اجتهد كثيرا فأصاب وأخطأ، ولو لم يبق له من حسنات سوي قرار الحرب والانتصار المجيد لكان ذلك كافيا لتخليده ورفعه إلي مصاف الرجال الأعظم في التاريخ فقد حقق السادات النصر الذي اعتبره العرب بعيدا ورآه العالم محالا، فأعاد لمصر شموخها وللعرب جميعا كرامتهم.. ربما لم ينجح السادات بدرجة كافية في استثمار النصر العظيم، وربما كانت اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمها سببا في هذا التخاذل والخنوع العربي الذي ندفع ثمنه الآن بعد أن انفرط العقد العربي، ولكن الرجل في كل الأحوال كان يدرك جيدا موازين القوي ويجيد تماما فنون المناورات السياسية ويتعامل دائما مع الممكن وليس مع المستحيل ويؤمن بنظرية أن ما لايُدرك كله لايترك كله.. يعرف جيدا أين يقف وإلي أين يتجه؟ ولكنه لاينسي أبدا إلي أين يجب أن يصل؟. لقد كانت زيارة السادات التاريخية للقدس وخطابه القوي الذي ألقاه في الكنيست - في رأيي - نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، وكتابة جديدة لفن إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن الرجل بلاشك قد أخطأ في تعجل النتائج، وجاء تصريحه باعتبار حرب أكتوبر آخر الحروب غير موفق فعندما نفاوض عدوا ومهما اخترنا السلام خيارا استراتيجيا لابد أن تظل الحرب - علي سبيل المناورة - بديلا مطروحا إذا لم يفلح السلام في استرداد الحقوق المسلوبة، فالزيارة في حد ذاتها فكرة عبقرية قدّرها العالم وانحني أمامها احتراما فقد كانت دليلا رائعا علي حسن النيات ونبل الفرسان ولو أُحسن استغلالها لكانت وحدها أهم وأكبر التنازلات العربية في مقابل السلام، وأما الرفض العربي المعلن لها فكان من الممكن الاستفادة به كأقوي عوامل الضغط التي يمكن أن تدعم موقف السادات في مفاوضاته مع الجانب الإسرائيلي من أجل القضية الفلسطينية لو تمهل السادات قليلا لكي يستثمر هذا الرفض العربي ولو فهم العرب أنفسهم كيف يناور به. لقد زرع فينا عبد الناصر برغم النكسة والانكسار روح المقاومة وعدم اليأس، وجاء السادات ليثبت أننا نستطيع أن نفعلها، وبقيت «روح أكتوبر» هي كلمة السر التي ولدت في عهد ناصر وتبلورت مع السادات في صورة النصر العظيم، ولكن المشكلة الحقيقية التي نعيشها اليوم أننا تخلينا تماما عن تلك الروح التي لم تعرف يوما الفتنة الطائفية ولا السنة أو الشيعة ففقدنا الثقة في قدرتنا علي النجاح وامتلكنا القدرة فقط علي قتل الانتماء فتحول الرخاء الذي انتظرناه بعد أكتوبر إلي سراب، وتحولت الريادة إلي مجرد محاولة مصر البقاء علي قيد الحياة، وما لم نبعث فينا هذه الروح مرة أخري فسنظل نحتفل بذكري الانتصار فنترحم علي السادات ونقرأ الفاتحة علي روح أكتوبر.