يكثر الحديث في هذه الأيام عن ضعف مستوي الطبيب المصري وكيف يؤذي هذا الضعف المرضي، وأهمية رفع مستوي الممارسة المهنية للطبيب. بل وصل الدكتور حمدي السيد» نقيب الأطباء في أحد أحاديثه إلي القول بأن «أي طبيب يرفض التعليم الطبي المستمر نهار أبوه أسود»! وبالطبع تؤدي تصريحات كل من وزير الصحة ونقيب الأطباء وهما من المفترض أنهما أعلي سلطتين مهنيتين إلي إضعاف ثقة المواطنين في الأطباء المسئولين عن صحتهم، وتحمل الأطباء بالطبع مسئولية سوء مستواهم، فأين الحقيقة في ذلك؟ بداية هناك مشكلة عالمية تواجه الدول المتقدمة كما تواجهنا وهي انفجار ثورة المعلومات، والطب ليس استثناء منها، فالعلم الطبي يتضاعف كل خمس سنوات، وتحدث فيه ثورة كبري كل عشر سنوات. إن الطبيب المجتهد الذي يرجع دائما إلي المرجع الأساسي في اختصاصه ويشتري كل طبعة جديدة، وهي تصدر عادة كل أربع سنوات، يظل مع ذلك متخلفا عن أحدث ما وصل إليه العلم حيث يستغرق إعداد المرجع سنتين ثم يظل دون تجديد لمدة أربع سنوات مما يعجزه عن ملاحقة معدل تطور العلم الطبي! والعالم مشغول منذ أكثر من أربعة عقود بالتقييم النقدي للممارسة الطبية ووسائل تطويرها. ومنذ عام 1992 وصدور المرجع الضخم المعنون «الطب المبني علي الأدلة» Evidence Based Medicine عن جامعة ماكماستر الكندية صارت هناك أسس علمية للممارسة المهنية الجيدة تبذل جميع الدول المتقدمة جهدها في توفير مقوماتها. من هذه الأسس: أهمية ربط الممارسة المهنية بأحدث التطورات العلمية، وبالتالي توفير جهاز كمبيوتر في كل عيادة عامة وفي كل قسم وفي كل مستشفي متصل بالإنترنت، لكي يتمكن الطبيب من حل مشاكل المرضي المهنية الصعبة علي أساس أحدث الأبحاث في العالم. كما تتوافر في كل مستشفي مكتبة ورقية ومكتبة رقمية (من خلال كمبيوتر واشتراك في الدوريات الطبية المختلفة). كما توجد دوريات باشتراك مجاني تصل إلي جميع الأطباء في إنجلترا مثلا مثل مجلة: لانسيت الشهيرة. وتتابع الإدارات الطبية قيام كل قسم في كل مستشفي باجتماعات علمية أسبوعية نظرية وإكلينيكية لرفع مستوي الممارسة وتوحيد توجه أطباء كل قسم. وتنص القوانين واللوائح علي حق كل طبيب في أسبوعين أو ثلاثة سنويا للاشتراك في مأموريات علمية مدفوعة الأجر ومؤتمرات طبية وتتحمل جهة العمل قيمة الاشتراك والانتقال والإقامة. وتفرض القوانين تجديد ترخيص مزاولة المهنة كل فترة (عادة كل خمس سنوات) لضمان المستوي العلمي للطبيب حيث يجب عليه الحصول علي حد أدني معين من مقررات علمية مقننة (تسمي ساعات دراسية معتمدة) بمقدار معين جزء منها المؤتمرات التي حضرها، وجزء منها دراسته المستقلة من علي الإنترنت، والدورات التدريبية التي حضرها. ولأول وهلة يبدو أن هذا هوالمقصود من مشروع القرار الرئاسي بإنشاء المجلس القومي المصري للمؤهلات الطبية المهنية المقدم من وزيري الصحة والتعليم العالي: فهو ينص علي تجديد ترخيص مزاولة المهنة كل خمس سنوات بعد استيفاء ساعات تدريبية معينة كما ينص علي أدوات التعليم الطبي المستمر. كما يعطي مشروع القرار للمجلس الجديد وحده صلاحية منح المؤهل الدراسي التخصصي الوريث لدرجة الزمالة المصرية مع سحب تلك الصلاحية من كليات الطب وقصر الدراسات العليا بها علي ما يسمي بالدرجات الأكاديمية البحثية فقط! لكن المشروع الحكومي يجعل مستوي الطبيب مسئوليته المادية والأدبية وليس مسئولية المؤسسة المهنية التي يعمل بها! لقد حاول الأطباء طويلا رفع مستواهم للدراسات العليا حتي صار 65% من الأطباء حاصلين علي درجات التخصص إلا أن وزارة التعليم العالي طاردتهم إذ رفعت رسوم الدراسات الطبية العليا من دبلوم وماجستير لتتراوح بين الألف والأربعة آلاف جنيه سنويا! ثم تأتي درجة الزمالة الجديدة والدورات الإجبارية لتجديد ترخيص مزاولة المهنة لكي تكون مخصخصة بالكامل علي حساب الطبيب. وعندما تشكو النقابة للوزير يصرح بكرم «حاتمي» بأن جهات العمل سوف تقرض الطبيب رسوم التدريب وتقسطها علي سنتين من راتبه!! مضيفا أنه لم يعد هناك تعليم مجاني في العالم! هذا حصاد خصخصة الطب والتعليم الطبي وتنصل الدولة من المسئولية عن مستوي أطبائها الذين تقل أجورهم عن أجور شغالات المنازل علي حد قول نقيب الأطباء! وللخصخصة وجوه أخري تساهم في تدهور التعليم قبل الجامعي في كليات الطب، ولكن لذلك مقال آخر!