تتجلي لنا هذه الأيام عناصر درامية بالغة التشويق أطلقت عليها وسائل الإعلام زيفا وصف «أزمة الكتب الخارجية»، و«حرب بدر» علي «أباطرة النشر»، و«المعركة القادمة» لوزير التعليم مع «عباقرة الدروس الخصوصية وجهابذتها». ونكاد نري تحت الغبار الكثيف للمعركة الوهمية معظم أجهزة الدولة ومؤسساتها وقد انخرطت في الأتون تقاتل بحماس شديد مع أو ضد قرار وزير التربية والتعليم الذي ينص علي إلزام دور النشر بدفع مقابل انتفاع بالمادة العلمية التي تضمنتها كتب الوزارة واشتق منها الناشرون ومؤلفوهم كتبهم الخارجية. ولم تتوان وسائل الإعلام بدورها عن دق الطبول بأقصي ما تستطيع وبكل ما تملك من أدوات الإثارة والتجزيء و«الشخصنة» والتصوير، فقرأنا وسمعنا عن تصعيد أمني تتخلله عمليات ضبط وتحفظ ولجوء إلي ساحات المحاكم، وصراع علي مئات الملايين من الجنيهات. وأسهم كل من رئيس الوزراء والحزب الحاكم ومجلس الشوري بسهمه في الميدان الافتراضي للمعركة، كما برز نجم المحاماة والرياضة والإعلام الأستاذ مرتضي منصور فتحدي «عائلة الوزير» الدكتور أحمد زكي بدر، وتم القبض علي الأستاذ أبو العز الحريري السياسي المعروف. ورغم أن الناس في أثناء متابعتهم لما يجري في مثل تلك المعارك يحصلون علي وجبات سريعة من الإثارة والتشويق والإلهاء فإن خسائرهم تكون دائما فادحة حين يجري دفن المعالم الحقيقية للقضايا تحت رمال معارك وهمية مفتعلة ومتلاحقة لا يكادون يفيقون منها، وهم في حالتهم هذه قد أدمنوا التركيز علي أعراض المرض دون حقيقته وأسبابه، والأكثر من ذلك أنهم قد اكتفوا بمتابعة أعراض هي لأعراض المرض، لا بل أعراض لأعراض الأعراض، دون انتباه إلي حقائق المرض الذي يتفشي وينهش سواء في التعليم أو الإسكان أو الصحة أو غيرها من المجالات التي يحيا بها أي مجتمع وينهض. فمن الصحيح أن الكتب الخارجية تنزع المعلومات والأفكار من سياقها ليسهل وضعها علي أرفف عقول التلاميذ دون فهم أو تحليل أو نقد أو تجريب أو حتي مناقشة، ولذلك فهي كما يؤكد الخبراء لا تكسب معرفة ولا تنمي مهارة ولا تخلق رؤية، ولكنها ليست هي المرض ولا تعدو كونها عرضا لعرض آخر هو ضعف كتب الوزارة وعدم كفايتها، وهذا بدوره ليس أكثر من عرض لعرض يسبقه هو قصور المناهج وعدم تطويرها، وهذا الأخير هو مجرد عرض لآخر هو ضعف القائمين علي تطوير المناهج، وذلك نفسه قد يكون عرضا لمرض خطير لا يملك المرء تشخيصه. وعندما نتشبث بالأعراض إلي درجة خوض معارك لاغتنام الأموال الناتجة عن اعتماد التلاميذ علي الكتب الخارجية فسنغفل حتما عن دور المدرسة كمؤسسة تعليمية منوط بها أدوار حيوية تتصل ببناء الإنسان اجتماعيا وأخلاقيا وعلميا، وسوف نتناسي أن مدارسنا أصبحت خاوية علي عروشها إلا من رحم ربي وإلا المدارس الخاصة علي الرغم من أن انتظام التلميذ في مدرسته إذا كان مطلبا حقيقيا لن يحتاج أكثر من تفعيل دفتر حضور غير قابل للتزوير أو التبديل، وحتي تتمكن المدرسة من أداء أدوارها يتطلب الأمر قبل دفتر الحضور تكريس الجهود السياسية والإدارية والعلمية في القضايا الأساسية مثل تطوير المناهج وتحديثها باستمرار، وتسخير التكنولوجيا في التعليم، وإعداد المعلم ودعمه علميا وحياتيا، وإنشاء المدارس وتجهيزها تعليميا وتكنولوجيا ورياضيا. وتلك أمور بدهية غابت عنا في خضم المعارك التي تدمننا كما ندمنها. وليست الكتب الخارجية، وهي المعركة الحالية، ولا الدروس الخصوصية، وهي المعركة القادمة، إلا علامات وهن شديد أصاب المؤسسة التعليمية ونال منها في أكثر من مقتل، وجميعنا يعرف ذلك، ولكن الناس يتيهون بشخصنة القضايا ويغرمون بالتشويق والتسلية، وليس ثمة تشويق أكثر من أن يصارع الوزير إمبراطورا للنشر أو للدروس الخصوصية ليس له من الإمبراطورية شيء سوي ما نفخ فيه إعلام يهوي المعارك الوهمية، وسنظل نحن والحال هكذا أمة في ألف خطر.