رمضان ليس زمناً واحداً بل أزمنة متنوعة بعدد الوجوه التي يتحها شهر وصفه الناس بأنه شهر كريم لأنه يعطينا أبعاداً متنوعة نفهم بها مستويات الإنسانية المختلفة فينا. أول زمن في رمضان هو زمن المجاهدة، فالصوم مجاهدة للنفس وترويض للجسد يتجلي في مسار الحياة اليومية في رمضان بالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، وهذا هو المقصد التربوي الأكبر في رمضان، فنحن لا نصوم كي نشعر بجوع الجائع كما كانوا يقولون لنا ونحن صغار، بل نصوم لأن هذا الجسد يحتاج أن يتعلم كيف يتنازل عما يشتهي ويقف عند حدود دنيا تخفف من ثقله ليسمو، ومن هنا كان الصوم من وسائل التربية الروحية في كل الديانات علي تنوع أشكاله. وإن كنا نحتاج كمصريين لأن نضيف لصوم اللسان عن الطعام والشراب صوم اللسان عن الكلام وهو لون من الصوم نذره الأنبياء تفرغاً للعبادة أو تحرزاً عن الجدل أو انصرافاً عن الناس كما يروي لنا القرآن، ولعله أصعب من الصوم عن الطعام والشراب لكن السلام الذي يورثه في النفس عجيب لأنه يتيح للعين أن تري وللأذن أن تسمع وللأنف أن تشم وللعقل أن يتأمل مع تخفيض ضوضاء اللسان المزعجة التي تحجب بصخبها فعالية هذه الحواس. الطبقة الثانية من الزمن في رمضان هي زمن الجماعة، سواء كانت الجماعة الاجتماعية التي تتحلق حول الإفطار في تجديد للأواصر الأسرية والأخوية، أم تلك التي تصطف لتنصت للقرآن في صلاة القيام والتهجد. ففي رمضان يتضح وجود الجماعة الاجتماعية بتلك الصحوة من تبادل الزيارات وصلة الأرحام، ويتضح معني الجماعة حين يعتاد المرء رؤية وجوه إخوانه (وأخواته) في صفوف الصلاة وتتجلي الرابطة الإيمانية وتمتلئ المساجد بالشباب والشيب والنساء والأطفال فتزدان بالذكر والتسبيح وهؤلاء الركع السجود. أما المستوي الثالث من الزمن في رمضان فهو زمن الوحي، هذا الانفراد بكتاب الله شهرا يقرأ المسلم فيه ويستدرك ما فاته حين هجر هذا القرآن في باقي الشهور ولم يوفه حقه، يعود المرء لكتاب الله بمطالعة متأنية ومقارنة متجلية وفهم ودأب وتواصل من حروف الوحي التي تنثر الهدي وترد الضال وتذكر التقي وتعلم الجاهل وترشد لقيم العدل والاحسان، وتنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. القرآن له في هذا الشهر الذي أنزله الله فيه مركزية واضحة، يعيد الفرد بناء علاقته به من جديد ويحلق معه في آفاق المعني قراءة وسماعاً حتي إنه يعيد اكتشاف بعض الآيات وكأنه لم يسمعها أو يقرأها من قبل. هذه الصلة وتلك العلاقة فريدة في رمضان، إنه زمن التلاوة والإقبال علي مأدبة الله المعنوية نتذوق المعاني ونتدارس المقاصد. المستوي الرابع من الزمن في رمضان هو زمن اللُحمة الاجتماعية أي الرابطة التي يدور حولها الوجود الإنساني في صلته بالجماعة السياسية، وذلك من خلال أفعال الخير وموائد الرحمة وأفعال الإحسان بالمعني العميق، فخلافاً للرابطة الأسرية والجيرة، والرابطة الإيمانية والمسجد، هناك الجسور التي يبنيها رمضان بين طبقات وفئات وشرائح الأمة، وهو لحظة لا يسعي فيها الفقير للغني ، بل يبحث فيها الغني عن الفقير كي يبره ويكرمه تقرباً لله، وينشط في الوصول له كي يحصل فعل الخيرات في هذا الشهر، فلا قيمة لليد التي تعطي إلا لو وجدت من الأخ يداً تأخذ، ومن آداب الصدقة أن تكون يد الفقير هي اليد العليا ويد الذي ينفق هي التي أسفل.. وليس العكس..لأن الصدقة تقع في يد الله، وكما نعلم كان السلف الصالح يعطر دراهم الصدقة ويجد في البحث عن المستحق لها من المتعففين. في هذا الشهر نتعلم درس التضامن الاجتماعي، ونتشارك بعضاً من الثروة علي اختلاف وتنوع الطبقات، ويصبح التكفير عن إفطار يوم للمريض أو صاحب العذر مقترناً بإعانة آخر علي صومه وتوفير لقيمات فطره بإطعامه، وهكذا يربط رمضان من انفك من عُري التلاحم الطبقي والتواصل بين الناس وتصبح هناك حالة من الذمة المشتركة. كل هذه الأزمنة وما تحويه من المعاني في رمضان نتقلب فيها في هذا الشهر الذي يريد الله به أن يعلمنا دروساً نستصحبها في باقي شهور السنة، فرمضان ليس استثناء نعود بعده لسباق محموم علي الدنيا والاستهلاك ونهجر القيم التي أحياها رمضان، بل هو رخات مطر علي أرض جدباء نحتاج لأن نحفظ ما نبت فيها في هذا الشهر بأن نسقيها تلك المعاني عبر شهور السنة كي لا نخسر تلك الأحوال فنغدو قوماً بورا. فاللهم ارزقنا ببركة هذا الشهر أدباً معك ومع الخلق في باقي الأزمنة.