لفت نظري في قناة الجزيرة برنامج عن السياحة المعرفية تتبناه جمعية أهلية في إحدي دول الخليج، يعتمد علي معلومات ومناظر طبيعية عن الجبال والوديان. ورأيت أن في مصر فرصا أجمل مما في أي دولة أخري عن السياحة المعرفية التي تضيف إلي عقل الإنسان معلومات قيمة ويستمتع فيها السائح روحيا ومعنويا وحسيا وذهنيا. يرجع السبب في الكتابة عن السياحة المعرفية إلي طبيعة عملي كباحث جيولوجي في صدر الشباب، ثم محاضر للجيولوجيا بجامعة حلوان،مكنته مهنته من زيارة معظم الصحاري المصرية (الشرقية والغربية وسيناء) من الشمال حتي الحدود مع السودان جنوبا. أتاحت له ظروفه رؤية ثروات مصر الطبيعية، والأثرية والتعدينية. البداية منذ ثلاثين عاما تقريبا، كنت أشارك في مسح جيولوجي لصخور منطقة «الفواخير» (وهي تابعة لمحافظة البحر الأحمر وتقع علي بعد 80 كم غرب مدينة القصير ويمر بالمنطقة أقدم وأشهر طريق يربط بين مدينة قفط بوادي النيل ومدينة القصير بالبحر الأحمر، ويسمي طريق قفط - القصير)، في تلك الأثناء وأنا أمارس عملي شاهدت نقوشا أثرية علي صخور المنطقة، عبثت بها يد الإهمال فشوهت بعضًا من معالمها لجهلها قيمتها، وكسرتها معاول الجيولوجيين بغير قصد، فالأهم لديهم معرفة نوع الصخر لا قيمة الأثر. ولأنني من مستخدمي طريق قفط - القصير كثيرا، فلم ألحظ من تطور إلا وجود «كشك» في تلك المنطقة يشير إلي هيئة الآثار. وأهمية تلك المنطقة (الفواخير) أنها شهيرة بمناجم الذهب القديمة التي اكتشفها الفراعنة،. ومرسوم لها أقدم وأول خريطة طوبوغرافية عرفها العالم، رُسمت في عهد الملك «سيتي الأول» لتحديد مواقع مناجم الذهب، والخريطة محفوظة الآن في متحف «تورينو» بإيطاليا. ويوجد بها بقايا أحواض استخلاص الذهب في عصر الفراعنة، بالإضافة إلي مصنع لاستخلاص الذهب شيده الإنجليز إبان فترة الاحتلال، وظل يعمل حتي عام 1954 والمصنع الآن متهالك ولا يعمل، ويجب المحافظة عليه كأثر وقيمته في أنه أثر أهم من بيعه «خردة». وطريق قفط - القصير الذي يشق منطقة «الفواخير» يجري علي «وادي الحمامات»، وكما يذكر العالم «سليم حسن» في موسوعته «مصر القديمة» أن وادي الحمامات لعب دورا عظيما علي مدار التاريخ القديم والحديث، كان ممرا للتجارة بين مصر الفرعونية وبلاد بونت (الصومال)، ومستودعا لاستحضار الذهب. وكانت محاجر وادي الحمامات معروفة للمصريين منذ الدولة القديمة، إلا أنها لم تستغل بطرق منظمة إلا في عهد الأسرة الحادية عشرة إبان حكم الملك «منتوحتب الثالث»، الذي أرسل القائد«حنو» في بعثه، إلي بلاد «بونت». واتخذ «حنو» طريقا حفر فيه عدة آبار حتي وصل إلي البحر الأحمر. وفي العودة إلي البلاد المصرية مر بوادي الحمامات، واستخرج منه الأحجار النادرة التي حملها إلي مصر، وترك علي صخور هذه المحاجر نقوشا طويلة عن تفاصيل هذه الرحلة. جاء الملك «منتوحتب الرابع» بعد موت «منتوحتب الثالث»، وعثر علي نقوش له في وادي الحمامات، والنقوش التي تنسب إلي حكم هذا الملك نحتت بيد وزيره «أمنمحات». ويذكر الوزير عن بعثته أنه عثر علي بئر في وسط الوادي أبعادها 10 * 10 أذرع مملوءة بالماء العذب ( هذه البئر موجودة ومعروفة حاليا ب بئر الحمامات بالقرب من النقوش الفرعونية). ومنذ ذلك العهد أصبحت البعثات التي ترسل إلي بلاد «بونت تخرج من مدينة «قفط» علي النيل إلي وادي الحمامات ثم البحر الأحمر، قاصدة ميناء «ساووا» المعروف حاليا باسم «وادي جاسوس» الذي يقع شمال مدينة «القصير». تتوالي البعثات إلي وادي الحمامات ولم تتوقف، فيرسل الفرعون أمنمحات الأول (الأسرة الثانية عشرة) بعثة إلي وادي الحمامات علي رأسها «انتف» حامل الختم الملكي والكاهن الأعظم للإله «مين» ليحضر حجر «البريشيا» الفاخر (حجر البريشيا مازال موجودا حتي هذه اللحظة). وبعد ذلك أرسل الفرعون «رمسيس الرابع» حملتين إلي محاجر «وادي الحمامات» لإحضار قطع ضخمة من الأحجار لإقامتها آثارا له. وقد نقش رجال البعثة الأولي الذين أرسلوا لقطع الأحجار ما حدث لهم هناك علي لوحة في صخور وادي الحمامات لا تزال باقية حتي الآن. واستغل «إخناتون» محاجر «وادي الحمامات»، حيث توجد بعض اللوحات المقطوعة في الصخر منقوشا عليها رسمًا، ثم جاء بعده الملك «سيتي الأول» الذي سجلته لوحة وهو يقدم إناء خمر للإله «آمون رع». وفي عصر البطالمة أقام الملك «بطليموس الثالث» معبدا للإله «مين» بوادي الحمامات بجوار «بئر الفواخير» (التي مازالت موجودة ويستخرج منها الماء حتي تاريخه). وتوجد نقوش للملكين «بسماتيك الأول والثاني» علي صخور الحمامات. وتؤكد نقوش الوادي أن «أحمس الثاني» لم يحكم مصر أكثر من سبع وأربعين سنة. ألا تشد منطقة الفواخير ووادي الحمامات بتاريخيهما انتباه المجلس الأعلي للآثار للمحافظة عليهما، ومحافظة البحر لاستغلالهما سياحيا؟ أراها ملحوظة مهمة أن منطقتي مناجم الذهب القديمة والآثار متلاصقتان وتقعان علي طريق قفط - القصير الأسفلتي المتهالك الذي يجري علي وادي الحمامات، وتمر به سيارات النقل والركاب. والمطلوب إنشاء طريق بديل لمرور السيارات واستثمار هذا الطريق - وهو ضيق - كمنفذ أثري للسياحة المعرفية. والطريق البديل لدينا تصور عنه لمن يريد وليس مكلفًا إذا حسنت النوايا وأخلصت. وهناك أيضا العديد من المواقع الأثرية المهمة في محافظة البحر الأحمر وأسوان وقنا يمكن عمل خرائط لهما، واستثمارهما سياحيا، تحت مسمي السياحة المعرفية. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.