تري ما الذي جعل المذيع التليفزيوني الناجح «إيهاب صلاح» يقرر في لحظة غضب أن يهدم حياته الناجحة ويقضي علي مستقبله الواعد بالتخلص من حياة زوجته بإطلاق رصاصة قاتلة علي رأسها؟! هل يمكن لخلافات زوجية تافهة ومتكررة في كل بيت أن تؤدي إلي هذه النهاية؟.. وما الذي جعل سائق حافلة «المقاولون العرب» يقرر فجأة أن يغتال زملاءه بإطلاق النار عليهم بشكل عشوائي ليقتل من قتل ويصيب من أصاب رغم عدم وجود سابق عداء أو خلاف بينه وبينهم، ورغم أن تاريخه الوظيفي الطويل لا يشير إلي عنفه أو عدوانيته أو ميله للجريمة؟!، وهل تكفي مجرد مداعبة أو تهكم من بعضهم ليعاقب السائق الجميع بالقتل قبل أن يستمر في خط سيره ويدخل بضحاياه من القتلي والجرحي إلي مقر الشركة وكأن شيئا لم يكن؟!.. وما السبب الذي يمكنه أن يفسر اقتحام شاب للمسجد ليذبح أباه أثناء صلاته متغلبا بمنتهي السهولة علي رابطة الدم ورهبة القتل وهيبة وجلال المكان؟!.. وما الذي يدفع عاملا بسيطا لخنق زوجته إثر مشادة بينهما بعد شهرين فقط من زفافهما أو يجعل شابا يقتل والدته المريضة بسم الفئران لاعتراضها علي زواجه؟.. هذه مجرد عيّنة بسيطة من الجرائم التي حدثت في الأيام الأخيرة فقط يمكننا أن نضيف إليها تلك الجرائم التي يمكن أن نطلق عليها «جرائم الصدفة» والتي تنتج دائما عن خلافات بسيطة ومتكررة تنشب جراء ممارسات الحياة اليومية القاسية كتلك الناتجة عن خناقة صغيرة في « طابور عيش» أو التي تبدأ بمشادة بين السائقين علي أولوية تحميل الركاب أو التزود بالوقود في محطة البنزين، أو تلك الناشئة عن محاولة الحصول علي أنبوبة بوتاجاز كلما تكررت أزمة اختفائها، أو إثر مشاجرة بين الصغار بسبب لعب الكرة تنتهي بمقتل أحد الجيران علي يد جاره أو بسبب خناقة علي الزبائن بين بائعين متجاورين تنتهي بمصرع أحدهما؛ فسنكتشف أننا نواجه كارثة تؤكد أن هناك أشياءً كثيرة خطأ لا يجب أن نتعامل معها فقط بالتعجب والحسرة ومصمصة الشفاه، وإنما لابد من التوقف أمامها بالدراسة المتأنية والتحليل الدقيق فهي ليست جرس إنذار وإنما النتيجة المبكرة لعدم التفاتنا لأجراس الإنذار الكثيرة التي أطلقت صافراتها في المجتمع فلم نُعرها اهتماما.. إننا أمام جرائم غير مبررة لم يرتكبها مجرمون بالفطرة، ولم يسعَ مرتكبوها إلي الترتيب المحكم لها أو محاولة الإفلات من العقاب بعدها، وإنما شعر الجاني في كل مرة أنه أدي واجبه وأنهي مهمته ثم سلم نفسه للشرطة طائعا مختارا. لعلنا نتذكر أن الفارق الوحيد الذي يميز الإنسان العاقل عن المجنون هو «الفرامل»، وهي تلك المكابح أو الضوابط الذاتية التي تتحكم في سلوك الإنسان فتضبط إيقاع تصرفاته وتهذب سلوكه وترشّد ردود أفعاله وتكبح جماح نفسه الأمارة دائما بالسوء، فإذا أصاب التلف هذه الفرامل انهارت مراكز «الظبط والربط» في المخ البشري وأصبح من السهل أن يفلت الزمام وأن يأتي الإنسان بتصرفات همجية لم يكن ليقدم عليها طالما ظل متمتعا بالحد الأدني من الفرامل الصالحة للعمل.. فما الذي يجعل المواطن المصري - بعيدا عن الجنون وعن الخمر والمخدرات التي حرمها الإسلام لأنها تذهب العقل - يفقد السيطرة علي فرامله الذاتية فيجنح إلي العنف ويندفع لاهثا نحو الجريمة؟ إنه بلا شك المناخ الفاسد والأوضاع السلبية التي يعيشها المجتمع بأسره والتي تحوّل معها الناس إلي جزر منعزلة لكل منها قانونه الخاص بعد أن صار المجتمع واقعيا بلا قانون والمواطن في الحقيقة بلا حقوق، فابحثوا عن غياب القانون لتعرفوا لماذا سنّ المصري لنفسه قانونه الملاكي، وفتشوا عن ظلم الكبار لتعرفوا لماذا يمارس الصغار ظلم بعضهم بعضا، وعن بطش القوي لتدركوا لماذا يبطش الضعيف بمن هو أضعف، واسألوا عن الديكتاتورية واحتكار السلطة لتفسّروا كيف يتحول المواطن المغلوب علي أمره فجأة إلي «فرعون» يتلذذ بالفرعنة علي كل من يستطيع.. أرجوكم ابحثوا عن مصر فإنها تحتضر.. لقد اختلت عجلة القيادة في أيدي الربابنة وباتت سفينة مصر تتخبط تتجاذبها الأمواج العاتية ولا يعرف أحد إلي أين المستقر فأفلت الزمام وبات الركاب يتقاتلون للتشبث بالحياة، فلا تلومنّ الغريق إذا اتخذ من جثة زميله الطافية طوقا للنجاة.. لقد أثبت المصريون خطأ النظرية التي تقرر أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه بعد أن بات بأسهم بينهم شديدا، وصارت ردود أفعالهم عنيفة ومضطربة إلي حد بعيد.. أعيدوا لنا عقولنا التي ذهبت وحقوقنا التي ضاعت قبل أن يصبح المصريون جميعا بلا فرامل.