تأخر هذا المقال عن ذكري الأربعين لخالد سعيد إلا أن ديناً في رقبتنا، نحن دعاة الإصلاح والتغيير، أجلسني وجعلني أمسك بالقلم. حقيقة الأمر أنني بعد طول تفكير فرضته علينا بشاعة الجريمة، مع ما فضحته من رخص الإنسان في المحروسة، توصلت إلي نتيجة مؤداها أننا ظلمنا النظام وأجهزة بطشه ظلماً بيناً، وأن من أبسط حقوقهم علينا أن نعترف بما لهم علينا من فضل ومن رد هذا الإجحاف. إذ لا بد من الاعتراف بأن النظام، وربما للمرة الأولي، قد نجح إعلامياً بصورةٍ ما.. إننا لا نبالغ إذا قلنا أن النظام وإعلامه لم يخطفا الأبصار أبداً كمل أرادا، فالإعلام الرسمي، ذلك البوق الذي يعذبنا النظام بنشازه، برع في نشر ثقافة الانحطاط والتخلف والتفاهة ولم ينجح أو يتفوق سوي في الفشل! وهو بما لديه من رصيدٍ وافرٍ يحسد عليه من المستشارين الفطنين لا يني يتحفنا بتفنينةٍ إثر سابقتها في محاولةٍ عاجزةٍ محكوم عليها بالفشل لاجتذاب الأنظار استعادة مجدٍ غابرٍ من عمر جدي وجدك ؛ فتارةً يشورون علي شخصٍ ما بخلع ربطة عنقٍ تفرضها اللياقة والرسميات في محاولةٍ يائسةٍ لإضفاء الشباب والنضارة، وتارةً أخري يجرون حواراً مضجراً بالساعات يجمع بين مذيعةٍ ( أو مذيع) لزجٍة وشخصيةٍ سمجةٍ يدعون أنها عامةٍ وهم في الواقع يبحثون لها عن دور.. وكما أن الأساليب متخلفة فالنتائج مخيبة، فلا الهرم يعود إليه صباه ولا السمج يصبح أكثر دماثةً أو قبولاً، وكل ما يتبقي هو الشعور بالرثاء للأول والدعاء بحسن الخاتمة لنا جميعاً والغيظ من الثاني. هذه الأمثلة وغيرها رسخت فشل النظام وإعلامه في تقديم أي شيء ملفت أو قصة محبوكة. إلا أنهم، وللمرة الأولي، كسروا هذه السنة.. ففي حادثة اغتيال خالد سعيد كان أداؤهم رائعاً! فذلك الدأب في محاولة التغطية والمغامرة المسلسلة للفافة البانجو قد نجحت فعلاً في شد انتباه الجمهور العريض. الأهم من ذلك هي تلك الصورة البشعة للشهيد وقد تهشم وجهه وتناثرت أسنانه وتشوهت ملامحه إلي جانب صورته كما خلقه ربه...وسيماً، شاباً، نضراً...هاتان الصورتان تغنيان عن أي كلام.. إن الكل، بلا استثناء، يقرأ أو يعلم أو يسمع عن المعتقلين السياسيين وما يحدث في أقسام الشرطة وعن الفلاحين والعمال الشهداء...الكثير يتعاطفون، والبعض ممن يمت لهم الضحايا بقربي أو من رأوهم وهم يعذبون ويقتلون لن ينسوا أبداً، أما الباقون، فالموضوع قد لا يعدوا أن يكون أخبارا أو مجرد أسامي...أما الآن، فقد رأوا بأعينهم كيف يكون التعذيب الوحشي وكيف يكون القتل وكيف تكون تصفية المعارضين، والشكر في ذلك كل الشكر للنظام! لقد أصبح لجرائمهم وجهاً... صورةٌ تلخص الكثير... صورةٌ تدين... صورةٌ تخلد الجرم... بعض الأصدقاء كانوا يقفون في أحد ميادين لندن وقفةً احتجاجية بمناسبة ذكري الأربعين وقد حملوا يافطات تندد بالتعذيب والاغتيال وصورتي خالد سعيد فما كان من المارة الإنجليز إلا أن يوقفوهم ويسألوهم عمن يكون هذان الشخصان، وكم كانت فاجعتهم عندما كانوا يعلمون أن الصورتين لشخصٍ واحد، أما ملامح الرعب الحقيقي فكانت ترتسم علي وجوههم حين يُخبرون بأن ذلك تم في أقل من ساعة...( علي الأغلب كانوا يشكرون الله والظروف حين ينصرفون أنهم مواطنو دولة محترمة بها قانون و أنهم لم يولدوا في تلك الغابات الملعونة والمنسية!) يحضرني هنا أن وكالة الاستخبارات المركزية وجيش بوليفيا، حين قتلوا تشي جيفارا، قاموا بعرض جثته أمام الصحفيين ووكالات الأنباء لكي يوثقوا إنجازهم العظيم ويقطعوا بذلك الطريق علي أي شائعات تزعم بأنه ما يزال حياً وأنه أفلت منهم ومستمرٌ في النضال، وكانت النتيجة عكسية تماماً، حيث خلدوه رمزاً للشباب المناضل المقاوم، وصار وجهه يطل متحدياً علي قتلته في كل مظاهرة ضد الظلم والبطش والاستغلال، سيظل وجه خالد سعيد هو أيضا ًرمزاً أبدياً لإجرام المرحلة يطل علي كل القتلة والطغاة و الظالمين! هكذا أهدانا النظام دليل إدانةٍ أبدية بهذه الصورة عن طريق مخبرين غبيين لم يفهما قواعد لعبة الرعب والتخويف الذي لا وجه له...ذلك السر المعلن... دليل إدانةٍ أبدية علي أول سبقٍ إعلاميٍ نحييهم وعلي هذه الصورة الصارخة يستحقون منا شكراً بمناسبة ذكري الأربعين.